التصنيفات
القرآن الكريم

تفسير ابن عاشور: سورة [المائدة : 17]

قال الله تعالى: {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ۚ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ۗ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ۚ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة : 17]

تفسير ابن عاشور: هذا من ضروب عدم الوفاء بميثاق الله تعالى . كان أعظمَ ضلال النّصارى ادّعاؤُهم إلهيّة عيسى عليه السلام ، فإبطال زعمهم ذلك هو أهمّ أحوال إخراجهم من الظلمات إلى النّور وهديهم إلى الصراط المستقيم ، فاستأنف هذه الجملة { لقد كفر الّذين قالوا إنّ الله هو المسيح ابن مريم } استئنافَ البيان . وتعيَّن ذكر الموصول هنا لأنّ المقصود بيان ما في هذه المقالة من الكفر لا بيان ما عليه النصارى من الضلال ، لأنّ ظلالهم حاصل لا محالة إذا كانت هذه المقالة كفراً .

وحُكي قولهم بما تؤدّيه في اللغة العربيّة جملة { إنّ الله هو المسيحُ ابن مريم } ، وهو تركيب دقيق المعنى لم يعطه المفسّرون حَقّه من بيان انتزاع المعنى المراد به ، من تركيبه ، من الدلالة على اتّحاد مسمّى هذين الاسمين بطريق تعريف كلّ من المسند إليه والمسند بالعلَمية بقرينة السياق الدالّة على أنّ الكلام ليس مقصوداً للإخبار بأَحداث لِذواتتٍ ، المسمّى في الاصطلاح : حملَ اشتقاق بل هو حمل مواطأة ، وهو ما يسمّى في المنطق : حمل ( هُوَ هُوَ ) ، وذلك حين يكون كلّ من المسند إليه والمسند معلوماً للمخاطب ويراد بيان أنّها شيء واحد ، كقولك حين تقول : قال زياد ، فيقول سامعك : من هو زياد ، فتقول : زياد هو النّابغة ، ومثله قولك : ميمون هو الأعشى ، وابن أبي السّمْط هو مروان بن أبي حَفْصة ، والمُرعَّث هو بشّار ، وأمثال ذلك . فمجرّد تعريف جزأي الإسناد كاف في إفادة الاتّحاد ، وإقحام ضمير الفصل بين المسند إليه والمسند في مثل هذه الأمثلة استعمال معروف لا يكاد يتخلّف قصداً لتأكيد الاتّحاد ، فليس في مثل هذا التّركيب إفادةُ قصر أحد الجزأين على الآخر ، وليس ضمير الفصل فيه بمفيد شيئاً سوى التّأكيد . وكذلك وجود حرف ( إنّ ) لزيادة التّأكيد ، ونظيره قول رُوَيشد بن كثير الطائي من شعراء الحماسة :

وَقُلْ لَهم بَادِروا بالعُذر والتمسوا … قولاً يبرئكم إنّي أنَا الموت

فلا يأتي في هذا ما لعلماء المعاني من الخلاف في أنّ ضمير الفصل هل يفيد قصر المسند إليه ، وهو الأصحّ؛ أو العكس ، وهو قليل ، لأنّ مقام اتّحاد المسمَّيين يسوّي الاحتمالين ويصرف عن إرادة القصر . وقد أشار إلى هذا المعنى إشارة خفية قول صاحب «الكشّاف» عقب قوله : { الّذين قالوا إنّ الله هو المسيح ابن مريم } «معناه بتُّ القول على أنّ حقيقة الله هو المسيح لا غير» . ومحلّ الشاهد من كلام «الكشّاف» ما عدا قوله ( لا غير ) ، لأنّ الظاهر أن ( لا غير ) يشير إلى استفادة معنى القصر من مثل هذا التّركيب ، وهو بعيد . وقد يقال : إنّه أراد أنّ معنى الانحصار لازم بمعنى الاتّحاد وليس ناشئاً عن صيغة قصر .

ويفيد قولهم هذا أنّهم جعلوا حقيقة الإله الحقّ المعلوم متّحدة بحقيقة عيسى عليه السلام بمنزلة اتّحاد الاسمين للمسمّى الواحد ، ومرادهم امتزاج الحقيقة الإلهيّة في ذات عيسى .

ولمّا كانت الحقيقة الإلهيّة معنونة عند جميع المتديّنين باسم الجلالة جَعَل القائلون اسم الجلالة المسندَ إليه ، واسمَ عيسى المسند ليدلّوا على أنّ الله اتّحدَ بذات المسيح .

وحكاية القول عنهم ظاهرة في أنّ هذا قالوه صراحة عن اعتقاد ، إذ سرى لهم القول باتّحاد اللاهوت بناسوتتِ عيسى إلى حدّ أن اعتقدوا أنّ الله سبحانه قد اتّحد بعيسى وامتزج وجود الله بوجود عيسى . وهذا مبالغة في اعتقاد الحلول . وللنّصارى في تصوير هذا الحلول أو الاتّحاد أصل ، وهو أنّ الله تعالى جوهر واحد ، هو مجموع ثلاثة أقانيم ( جمع أقنوم بضمّ الهمزة وسكون القاف وهو كلمة رومية معناها : الأصل ، كما في القاموس؛ وهذه الثلاثة هي أقنوم الذات ، وأقنوم العلم وأقنوم الحياة ، وانقسموا في بيان اتّحاد هذه الأقانيم بذات عيسى إلى ثلاثة مذاهب : مذهب المَلْكانِيَّة وهم الجاثلقية ( الكاثوليك ) ، ومذهب النَّسْطُورية ، ومذهب اليَعقوبية . وتفصيله في كتاب «المقاصد» . وتقدّم مفصّلاً عند تفسير قوله تعالى : { فآمِنوا بالله ورسُله ولا تقولوا ثلاثة } في سورة [ النّساء : 171 ] . وهذا قول اليعاقبة من النصارى ، وهم أتباع يعقوب البرذعاني ، وكان راهباً بالقسطنطينية ، وقد حدثت مقالته هذه بعد مقالة المَلْكَانية ، ويقال لِليعاقبة : أصحاب الطبيعة الواحدة ، وعليها درج نصارى الحبشة كلّهم . ولا شكّ أنّ نصارى نجران كانوا على هذه الطريقة .

ولقرب أصحابها الحبشة من بلاد العرب تصدّى القرآن لبيان ردّها هنا وفي الآية الآتية في هذه السورة . وقد بيّنا حقيقة معتقد النصارى في اتّحاد اللاهوت بالناسوت وفي اجتماع الأقانيم عند قوله تعالى : { وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه } في سورة [ النساء : 171 ] .

وبيّن الله لرسوله الحجّة عليهم بقوله : قل فمن يملك من الله شيئاً } الآية ، فالفاء عاطفة للاستفهام الإنكاري على قولهم : إنّ الله هو المسيح ، للدلالة على أنّ الإنكار ترتّب على هذا القول الشنيع ، فهي للتعقيب الذِكري ، وهذا استعمال كثير في كلامهم ، فلا حاجة إلى ما قيل : إنّ الفاء عاطفة على محذوف دلّ عليه السياق ، أي ليس الأمر كما زعمتم ، ولاَ أنّها جواب شرط مقدّر ، أي إن كان ما تقولون فمن يملك من الله شيئاً ، إلخ .

ومعنى يملك شيئاً هنا يَقْدِر على شيء ، فالمركّب مستعمل في لازم معناه على طريقة الكناية ، وهذا اللازم متعدّد وهو المِلْك ، فاستطاعةُ التحويل ، وهو استعمال كثير ومنه قوله تعالى : { قل فمن يملك لكم من الله شيئاً إن أرادَ بكم ضَرّا } الآية في سورة [ الفتح : 11 ] . وفي الحديث قال رسول الله لعُيينة بن حِصْن أفأملك لك أن نزع الله من قلبك الرحمة لأنّ الذي يملك يتصرّف في مملوكه كيف شاء .

فالتنكير في قوله شيئاً } للتقليل والتحقير . ولمّا كان الاستفهام هنا بمعنى النفي كان نفي الشيء القليل مقتضياً نفي الكثير بطريق الأولى ، فالمعنى : فمن يقدر على شيء من الله ، أي مِنْ فِعْله وتصرفِّه أنْ يحوّله عنه ، ونظيره

{ وما أغني عنكم من الله من شيء } [ يوسف : 67 ] . وسيأتي لمعنى «يملك» استعمال آخر عند قوله تعالى : { قل أتعبدون من دون الله ما لا يَملك لكم ضرّاً ولا نفعاً } [ المائدة : 76 ] في هذه السورة ، وسيأتي قريب من هذا الاستعمال عند قوله تعالى : { ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً في هذه السورة } [ المائدة : 41 ] .

وحرف الشرْط من قوله : { إن أراد } مستعمل في مجرّد التّعليق من غير دلالة على الاستقبال ، لأنّ إهلاك أمّ المسيح قد وقع بلا خلاف ، ولأنّ إهلاك المسيح ، أي موته واقع عند المجادَلين بهذا الكلام ، فينبغي إرخاءُ العنان لهم في ذلك لإقامة الحجّة ، وهو أيضاً واقع في قول عند جمع من علماء الإسلام الّذين قالوا : إنّ الله أماته ورفعه دون أن يُمكَّن اليهودُ منه ، كما تقدّم عند قوله تعالى : { وما قتلوه وما صلبوه } [ النساء : 157 ] ، وقوله : { إنّي متوفّيك ورافعك إليّ } [ آل عمران : 55 ] . وعليه فليس في تعليق هذا الشرط إشعار بالاستقبال . والمضارع المقترن بأن وهو { أن يهلك } مستعمل في مجرّد المصدرية . والمرادُ ب { مَن في الأرض } حينئذٍ من كان في زمن المسيح وأمِّه من أهل الأرض فقد هلكوا كلّهم بالضرورة . والتّقدير : مَن يملَك أن يصدّ الله إذْ أراد إهلاك المسيح وأمّه ومن في الأرض يومئذٍ .

ولك أن تلتزم كون الشرط للاستقبال باعتبار جَعْل { من في الأرض جميعاً } بمعنى نوع الإنسان ، فتعليق الشرط باعتبار مجموع مفاعيل { يُهلك } على طريقة التغليب؛ فإنّ بعضها وقع هلكه وهو أمّ المسيح ، وبعضها لم يقع وسيقع وهو إهلاك من في الأرض جميعاً ، أي إهلاك جميع النّوع ، لأنّ ذلك أمر غير واقع ولكنّه مُمكن الوقوع .

والحاصل أنّ استعمال هذا الشرط من غرائب استعمال الشروط في العربية ، ومرجعه إلى استعمال صيغة الشرط في معنى حقيقي ومعنى مجازي تغليباً للمعنى الحقيقي ، لأنّ { مَنْ في الأرض } يعمّ الجميع وهو الأكثر . ولم يعطه المفسّرون حقّه من البيان . وقد هلكت مريم أمّ المسيح عليهما السلام في زمن غير مضبوط بعد رفع المسيح .

والتذييل بقوله : { ولله ملك السموات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء } فيه تعظيم شأن الله تعالى . وردّ آخر عليهم بأنّ الله هو الّذي خلق السماوات والأرض وملك ما فيها من قبل أن يَظهر المسيح ، فالله هو الإله حقّاً ، وأنّه يخلق ما يشاء ، فهو الّذي خلق المسيح خلقاً غير معتاد ، فكان موجِب ضلال من نسب له الألوهية . وكذلك قوله : { والله على كلّ شيء قدير } .

التصنيفات
القرآن الكريم

تفسير ابن عاشور: سورة [النساء : 171]

قال الله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ ۚ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ ۖ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ۖ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ ۚ انتَهُوا خَيْرًا لَّكُمْ ۚ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ ۘ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا} [النساء : 171]

تفسير ابن عاشور: { ياأهل الكتاب لاَ تَغْلُواْ فِى دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق إِنَّمَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولُ الله وَكَلِمَتُهُ ألقاها إلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ } .

استئناف ابتدائي بخطاب موجّه إلى النصارى خاصّة . وخوطبوا بعنوان أهل الكتاب تعريضاً بأنَّهم خالفوا كتابهم . وقرينةُ أنَّهم المراد هي قوله : { إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله إلى قوله : أن يكون عبداً لله } [ النساء : 172 ] فإنّه بيان للمراد من إجمال قوله : { لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلاّ الحقّ } وابتدئت موعظتهم بالنّهي عن الغلوّ لأنّ النّصارى غلَوا في تعظيم عيسى فادّعوا له بنوّة الله ، وجعلوه ثالث الآلهة .

والغلوّ : تجاوز الحدّ المألوف ، مشتقّ من غَلْوَة السهم ، وهي منتهى اندفاعه ، واستُعير للزيادة على المطلوب من المعقول ، أو المشْرُوع في المعتقدات ، والإدراكات ، والأفعال . والغلوّ في الدّين أن يُظهر المتديّن ما يفوت الحدّ الّذي حدّد له الدينُ . ونهاهم عن الغلوّ لأنَّه أصل لكثير من ضلالهم وتكذيبهم للرسل الصّادقين . وغلّو أهل الكتاب تجاوزُهم الحدّ الذي طلبه دينهم منهم : فاليهود طولبوا باتّباع التّوراة ومحبّة رسولهم ، فتجاوزوه إلى بِغضة الرسل كعيسى ومحمدّ عليهما السّلام ، والنّصارى طولبوا باتّباع المسيح فتجاوزوا فيه الحدّ إلى دعوى إلهيّته أو كونه ابنَ الله ، مع الكفر بمحمدّ صلى الله عليه وسلم

وقوله : { ولا تقولوا على الله إلاّ الحقّ } عطف خاصّ على عامّ للاهتمام بالنهي عن الافتراء الشنيع . وفعل القول إذا عدّي بحرف ( على ) دلّ على أنّ نسبة القائل القول إلى المجرور ب ( على ) نسبة كاذبة ، قال تعالى : { ويقولون على الله الكذب } [ آل عمران : 78 ] . ومعنى القول على الله هنا : أن يقولوا شيئاً يزعمون أنَّه من دينهم ، فإنّ الدين من شأنه أن يتلقّى من عند الله .

وقوله : { إنما المسيح عيسى ابن مريم } جملة مبيّنة للحدّ الذي كان الغلوّ عنده ، فإنَّه مجمل؛ ومبيّنة للمراد من قول الحقّ .

ولكونها تتنزّل من الَّتي قبلها منزلة البيان فُصلت عنها . وقد أفادت الجملة قصر المسيح على صفات ثلاث : صفة الرسالة ، وصفةِ كونه كلمة الله ألقيت إلى مريم ، وصفة كونه روحاً من عند الله . فالقصر قصر موصوف على صفة . والقصد من هذا القصر إبطال ما أحدثه غلوّهم في هذه الصّفات غلوّاً أخرجها عن كنهها؛ فإنّ هذه الصّفات ثابتة لعيسى ، وهم مثبتون لها فلا يُنكر عليهم وصفُ عيسى بها ، لكنّهم تجاوزوا الحدّ المحدود لها فجعلوا الرسالة البُنوّة ، وجعلوا الكلمة اتِّحادَ حقيقة الإلهيّة بعيسى في بطن مريم فجعلوا عيسى ابناً لله ومريم صاحبة لله سبحانه ، وجعلوا معنى الروح على ما به تكوّنت حقيقة المسيح في بطن مريم من نفْس الإلَهية .

والقصر إضافي ، وهو قصر إفرادٍ ، أي عيسى مقصور على صفة الرسالة والكلمة والروح ، لا يتجاوز ذلك إلى ما يُزاد على تلك الصّفات من كون المسيح ابناً لله واتِّحاد الإلهيّة به وكون مريم صاحبة .

ووصف المسيح بأنّه كلمة الله وصف جاء التّعبير به في الأناجيل؛ ففي صدر إنجيل يوحنا «في البدء كان الكلمةُ ، والكلامة كان عند الله ، وكان الكلمة الله ثم قال والكلمة صار جسداً وحلّ بيننا» . وقد حكاه القرآن وأثبته فدلّ على أنّه من الكلمات الإنجيلية ، فمعنى ذلك أنّه أثَر كلمة الله . والكلمةُ هي التكوين ، وهو المعبّر عنه في الاصطلاح ب ( كُن ) . فإطلاق الكلمة على التكوين مجاز ، وليس هو بكلمة ، ولكنّه تعلّقُ القدرة . ووصف عيسى بذلك لأنَّه لم يكن لتكوينه التّأثيرُ الظاهرُ المعروف في تكوين الأجنّة ، فكان حدوثه بتعلّق القدرة ، فيكون في { كلمته } في الآية مجازان : مجاز حذف ، ومجاز استعارة صار حقيقة عرفيّة .

ومعنى { ألقاها إلى مريم } أوصلها إلى مريم ، وروعي في الضمير تأنيث لفظ الكلمة ، وإلاّ فإنّ المراد منها عيسى ، أو أراد كلمة أمر التكوين . ووصف عيسى بأنّه روح الله وصفٌ وقع في الأناجيل . وقد أقرّه الله هنا ، فهو ممّا نزل حقّاً .

ومعنى كون عيسى روحاً من الله أنّ روحه من الأرواح الّتي هي عناصر الحياة ، لكنّها نسبت إلى الله لأنَّها وصلت إلى مريم بدون تكوّن في نطفةٍ فبهذا امتاز عن بقيّة الأرواح . ووُصف بأنّه مبتدأ من جانب الله ، وقيل : لأنّ عيسى لمّا غلبت على نفسه الملكية وصف بأنّه روح ، كأنّ حظوظ الحيوانية مجرّدة عنه . وقيل : الروح النفخة . والعرب تسمّى النفس روحاً والنفخ روحاً . قال ذو الرمّة يذكر لرفيقه أن يوقد ناراً بحطب :

فقلت له ارفعها إليك فأَحيها … برُوحك واقتُتْه لها قِيتة قَدْرا

( أي بنفخك ) .

وتلقيب عيسى بالروح طفحت به عبارات الأناجيل . و ( مِن ) ابتدائية على التقادير .

فإن قلت : ما حكمة وقوع هذين الوصفين هنا على ما فيهما من شبهة ضلّت بها النّصارى ، وهلاّ وصف المسيح في جملة القصر بمثل ما وصف به محمّد صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : { قل إنَّما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ } [ الكهف : 110 ] فكان أصرح في بيان العبوديّة ، وأنفى للضلال .

قلت : الحكمة في ذلك أنّ هذين الوصفين وقعا في كلام الإنجيل ، أو في كلام الحواريّين وصفاً لعيسى عليه السّلام ، وكانا مفهومين في لغة المخاطبين يومئذٍ ، فلمَّا تغيّرت أساليب اللّغات وساء الفهم في إدراك الحقيقة والمجاز تسرّب الضلال إلى النّصارى في سوء وضعهما فأريد التنبيه على ذلك الخطأ في التأويل ، أي أنّ قصارى ما وقع لديكم من كلام الأناجيل هو وصف المسيح بكلمة الله وبروح الله ، وليس في شيء من ذلك ما يؤدّي إلى اعتقاد أنَّه ابن الله وأنَّه إله .

وتصدير جملة القصر بأنّه { رسول الله } ينادي على وصف العبوديّة إذ لا يُرسل الإله إلهاً مثله ، ففيه كفاية من التنبيه على معنى الكلمة والروح .

{ فامنوا بالله وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثلاثة انتهوا خَيْراً لَّكُمْ إِنَّمَا الله إله واحد سبحانه أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ وما فِى السماوات وَمَا فِى الارض وكفى بالله وَكِيلاً } صلى الله عليه وسلم .

الفاء للتفريع عن جملة القصر وما بنيت عليه . أي إذا وضح كلّ ما بيَّنه الله من وحدانيَّته ، وتنزيهه ، وصدق رسله ، يتفرّع أن آمُركم بالإيمان بالله ورسله . وأمروا بالإيمان بالله مع كونهم مؤمنين ، أي النصارى ، لأنّهم لمّا وصفوا الله بما لا يليق فقد أفسدوا الإيمان ، وليكون الأمر بالإيمان بالله تمهيداً للأمر بالإيمان برُسله ، وهو المقصود ، وهذا هو الظاهر عندي . وأريدَ بالرسل جميعهم ، أي لا تكفروا بواحد من رسله . وهذا بمنزلة الاحتراس عن أن يتوهّم متوهّمون أن يعرضوا عن الإيمان برسالة عيسى عليه السلام مبالغة في نفي الإلهية عنه .

وقوله : { ولا تقولوا ثلاثة } أي لا تنطقوا بهذه الكلمة ، ولعلّها كانت شعاراً للنصارى في دينهم ككلمة الشهادة عند المسلمين ، ومن عوائدهم الإشارة إلى التثليث بالأصابع الثلاثة : الإبهام والخنصر والبنصر . والمقصود من الآية النهي عن النطق بالمشتهر من مدلول هذه الكلمة وعن الاعتقاد . لأنّ أصل الكلام الصدق فلا ينطق أحد إلاّ عن اعتقاد ، فالنهي هنا كناية بإرادةِ المعنى ولازمه . والمخاطب بقوله : { ولا تقولوا } خصوص النّصارى .

و { ثلاثة } خبر مبتدأ محذوف كانَ حذفه ليصلحَ لكلّ ما يصلحُ تقديره من مذاهبهم من التثليث ، فإنّ النصارى اضطربوا في حقيقة تثليث الإله كما سيأتي ، فيقدر المبتدأ المحذوف على حسب ما يقتضيه المردود من أقوالهم في كيفية التثليث ممّا يصحّ الإخبار عنه بلفظ { ثلاثة } من الأسماء الدّالة على الإله ، وهي عدّة أسماء . ففي الآية الأخرى { لقد كفر الذين قالوا إنّ الله ثالث ثلاثة } [ المائدة : 73 ] . وفي آية آخر هذه السورة { أأنت قلت للنّاس اتّخذوني وأمّي إلهين من دون الله } [ المائدة : 116 ] ، أي إلهين مع الله ، كما سيأتي ، فالمجموع ثلاثة : كلّ واحد منهم إله؛ ولكنّهم يقولون : أنّ مجموع الثلاثة إله واحد أو اتّحدت الثلاثة فصار إله واحد . قال في «الكشّاف» : ( ثلاثة ) خبر مبتدأ محذوف فإن صحّت الحكاية عنهم أنَّهم يقولون : هو جوهر واحد وثلاثة أقانيم ، فتقديره الله ثلاثة وإلاّ فتقديره الآلهة ثلاثة اه .

والتثليث أصل في عقيدة النصارى كلّهم ، ولكنّهم مختلفون في كيفيته . . ونشأ من اعتقاد قدماء الإلهيّين من نصارى اليونان أنّ الله تعالى ( ثَالُوث ) ، أي أنَّه جوهر واحد ، وهذا الجوهر مجموع ثلاثة أقانيم ، واحدها أقْنُوم بضم الهمزة وسكون القاف . قال في «القاموس» : هو كلمة رومية ، وفسّره القاموس بالأصل ، وفسّره التفتزاني في كتاب «المقاصد» بالصفة . ويظهر أنَّه معرّب كلمة ( قنوم بقاف معقد عجمي ) وهو الاسم ، أي ( الكلمة ) . وعبّروا عن مجموع الأقانيم الثلاثة بعبارة ( آبَا ابنَا رُوحا قُدُسا ) وهذه الأقانيم يتفرّع بعضها عن بعض : فالأقنوم الأول أقنوم الذات أو الوجود القديم وهو الأب وهو أصل الموجودات .

والأقنوم الثاني أقنوم العلم ، وهو الابن ، وهو دونَ الأقنوم الأول ، ومنه كان تدبير جميع القوى العقلية .

والأقنوم الثالث أقنوم الروح القُدس ، وهو صفة الحياة ، وهي دون أقنوم العلم ومنها كان إيجاد عالم المحسوسات .

وقد أهملوا ذكر صفات تقتضيها الإلهية ، مثل القِدم والبقاء ، وتركوا صفة الكلام والقدرة والإرادة ، ثمّ أرادوا أن يتأوّلوا ما يقع في الإنجيل من صفات الله فسمّوا أقنوم الذات بالأب ، وأقنوم العلم بالابن ، وأقنوم الحياة بالروح القدس ، لأنّ الإنجيل أطلق اسم الأب على الله ، وأطلق اسم الابن على المسيح رسوله ، وأطلق الروح القدس على ما به كُوّن المسيح في بطن مريم ، على أنَّهم أرادوا أن ينبّهوا على أنّ أقنوم الوجود هو مفيض الأقنومين الآخرين فراموا أن يدلّوا على عدم تأخّر بعض الصّفات عن بعض فعبّروا بالأب والابن ، ( كما عبّر الفلاسفة اليونان بالتولّد ) . وسمّوا أقنوم العلم بالكلمة لأنّ من عبارات الإنجيل إطلاق الكلمة على المسيح ، فأرادوا أنّ المسيح مظهر علم الله ، أي أنَّه يعلم ما علمه الله ويبلّغه ، وهو معنى الرسالة إذ كان العلم يوم تدوين الأناجيل مكلَّلاً بالألفاظ الاصطلاحية للحكمة الإلهية الروميّة ، فلمّا اشتبهت عليهم المعاني أخذوا بالظواهر فاعتقدوا أنّ الأرباب ثلاثة وهذا أصل النصرانيّة ، وقاربوا عقيدة الشرك .

ثمّ جَرّهم الغُلوّ في تقديس المسيح فتوهَّموا أنّ علم الله اتّحد بالمسيح ، فقالوا : إنّ المسيح صار ناسوتُه لاَهُوتاً ، باتّحاد أقنُوم العلم به ، فالمسيح جوهران وأقنوم واحد ، ثمّ نشأت فيهم عقيدة الحلول ، أي حلول الله في المسيح بعبارات متنوّعة ، ثمّ اعتقدوا اتّحاد الله بالمسيح ، فقالوا : الله هو المسيح . هذا أصل التثليث عند النّصارى ، وعنه تفرّعت مذاهب ثلاثة أشار إلى جميعها قوله تعالى : { ولا تقولوا ثلاثة } وقولُه { لقد كفر الّذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم } [ المائدة : 72 ] وقولُه : { أأنت قلت للنّاس اتّخذوني وأمّي إلهين من دون الله } [ المائدة : 116 ] وكانوا يقولون : في عيسى لاهوتيةٌ من جهة الأب ونَاسوتيَّةٌ أي إنسانية من جهة الأمّ .

وظهر بالإسكندرية راهب اسمه ( آريوس ) قالو بالتوحيد وأنّ عيسى عبدُ الله مخلوق ، وكان في زمن ( قسطنطينوس سلطان الرّون باني القسطنطينية ) . فلمّا تديّن قسطنطينوس المذكور بالنصرانية سنة327 تبع مقالة ( آريوس ) ، ثمّ رأى مخالفةَ معظممِ الرهبان له فأراد أن يوحّد كلمتهم ، فجمع مجمعاً من علماء النصارى في أواخر القرن الرابع من التّاريخ المسيحي ، وكان في هذا المجمع نحو ألفي عالم من النصارى فوجدهم مختلفين اختلافاً كثيراً ووجد أكثر طائفة منهم على قول واحدٍ ثلاثَمائة وبضعةَ عشر عالماً فأخذ قولهم وجعله أصل المسيحيّة ونصَره ، وهذه الطائفة تلقّب ( المَلْكَانِيَّة ) نسبة للمَلِك .

واتَّفق قولهم على أنّ كلمة الله اتَّحدت بجسد عيسى ، وتقمَّصت في ناسوته ، أي إنسانيته ، ومازجته امتزاج الخمر بالماء ، فصارت الكلمةُ ذاتاً في بطن مريم ، وصارت تلك الذات ابناً لله تعالى ، فالإلهُ مجموع ثلاثة أشياء :

الأوّل الأب ذُو الوجود ، والثاني الابن ذُو الكلمة ، أي العلم ، والثالث روح القدس .

ثمّ حدثت فيهم فرقة اليَعْقوبية وفرقة النَّسْطُورِيَّة في مجامع أخرى انعقدت بين الرهبان . فاليعقوبيّة ، ويسمّون الآن ( أرْثُودُكْسْ ) ، ظَهروا في أواسط القرن السادس المسيحي ، وهم أسبق من النسطورية؛ قالوا : انقلبت الإلهية لَحْماً ودَماً؛ فصار الإله هو المسيح فلأجل ذلك صدرت عن المسيح خوارق العادات من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص فأشبه صُنْعه صنع الله تعالى ممّا يعجز عنه غير الله تعالى . وكان نصارى الحبشة يعاقبه ، وسنتعرّض لذكرها عند قوله تعالى : { لقد كفر الّذين قالوا إنّ الله هو المسيح ابن مريم } في سورة المائدة ( 72 ) ، وعند قوله تعالى : { فاختلف الأحزاب من بينهم } [ مريم : 37 ] .

والنَّسطوريّة قالت : اتَّحدت الكلمة بجسد المسيح بطريق الإشراق كما تشرق الشّمس من كوة مِن بلّور ، فالمسح إنسان ، وهو كلمة الله ، فلذلك هو إنسان إله ، أو هو له ذاتيتان ذات إنسانيّة وأخرى إلهيّة ، وقد أطلق على الرئيس الديني لهذه النّحلة لقب ( جَاثِليق ) . وكانت النحلة النسطورية غالبة على نصارى العرب . وكان رهبان اليعاقبة ورهبان النسطوريين يتسابقون لبث كلّ فريققٍ نحلتَه بين قبائل العرب . وكان الأكاسرة حُماة للنسطورية . وقياصرةُ الرّوم حُمَاة لليعقوبية . وقد شاعت النّصرانيّة بنحْلتيْها في بَكْر ، وتَغلب ، وربيعة ، ولخم ، وجُذام ، وتَنُوخ ، وكَلْب ، ونَجْران ، واليَمَن ، والبحرين . وقد بَسَطْتُ هذا ليعلم حُسن الإيجاز في قوله تعالى : { ولا تقولوا ثلاثة } وإتيانه على هذه المذاهب كلّها . فللّه هذا الإعجاز العلمي .

والقول في نَصب ( خيراً ) من قوله : { انتهوا خيراً لكم } كالقول في قوله تعالى : { فآمنوا خيراً لكم } [ النساء : 170 ] . والقصر في قوله : { إنَّما الله إله واحد } قصر موصوف على صفة ، لأنّ ( إنّما ) يليها المقصور ، وهو هنا قصر إضافي ، أي ليس الله بثلاثة .

وقوله : { سبحانه أن يكون له ولد } إظهار لغلطهم في أفهامهم ، وفي إطلاقاتهم لفظَ الأب والابن كيفما كان محملهما لأنَّهما إمّا ضلالة وإمّا إيهامُها ، فكلمة ( سبحانه ) تفيد قوة التنزيه لله تعالى عن أن يكون له ولد ، والدلالةَ على غلط مثبتيهِ ، فإنّ الإلهية تنافي الكون أبا واتّخاذَ ابن ، لاستحالة الفناء ، والاحتياج ، والانفصال ، والمماثلة للمخلوقات عن الله تعالى . والبنوّة تستلزم ثبوت هذه المستحيلات لأنّ النسل قانون كوني للموجودات لحكمة استبقاء النوع ، والناس يتطلّبونها لذلك ، وللإعانةِ على لوازم الحياة ، وفيها انفصال المولود عن أبيه ، وفيها أنّ الابن مماثلة لأبيه فأبُوه مماثل له لا محالة .

و ( سبحان ) اسم مصدر سَبَّح ، وليس مصدراً ، لأنَّه لم يسمع له فعل سالم . وجزم ابن جني بأنّه علَم على التسبيح ، فهو من أعلام الأجناس ، وهو ممنوع من الصرف للعلمية والزيادة . وتقدّم الكلام عليه عند قوله تعالى : { قالوا سبحانك لا علم لنا إلاّ ما علّمتنا }

في سورة البقرة ( 32 ) .

وقوله : أنْ يكونَ له وَلَدَ } متعلّق ب ( سبحان ) حرف الجرّ ، وهو حرف ( عَن ) محذوفاً .

وجملة { له ما في السموات وما في الأرض } تعليل لقوله : { سبحانه أن يكون له ولد } لأنّ الذي له ما في السماوات وما في الأرض قد استغنى عن الولد ، ولأنّ من يُزْعَم أنَّه ولدٌ له هو ممّا في السماوات والأرض كالملائكة أو المسيح ، فالكلّ عبيده وليس الابن بعبد .

وقوله : { وكفى بالله وكيلا } تذييل ، والوكيل الحافظ ، والمراد هنا حافظ ما في السماوات والأرض ، أي الموجودات كُلّها . وحُذف مفعول ( كفى ) للعموم ، أي كفى كلّ أحد ، أي فتوكّلوا عليه ، ولا تتوكّلوا على من تزعمونه ابناً له . وتقدّم الكلام على هذا التركيب عند قوله تعالى : { وكفى بالله وكيلاً } في هذه السورة .

التصنيفات
القرآن الكريم

تفسير ابن عاشور: سورة [النساء : 156]

قال الله تعالى: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَىٰ مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا} [النساء : 156]

تفسير ابن عاشور: { وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ على مَرْيَمَ بهتانا عَظِيماً وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولَ الله وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ ولكن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الذين اختلفوا فِيهِ لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتباع الظن } .

عُطف { وبكفرهم } مرّة ثانية على قوله : { فبما نقضهم } [ النساء : 155 ] ولم يُستغن عنه بقوله : { وكفرِهم بآيات الله } [ النساء : 155 ] وأعيد مع ذلك حرف الجرّ الذي يغني عنه حرفُ العطف قصداً للتأكيد ، واعتبر العطف لأجل بُعْد ما بيّن اللفظين ، ولأنَّه في مقام التهويل لأمر الكفر ، فالمتكلّم يذكره ويُعيده : يتثبّت ويُرى أنّه لا ريبة في إناطة الحكم به ، ونظير هذا التكرير قول لبيد :

فتَنَازَعَا سَبِطاً يَطِيرُ ظلالُه … كدُخان مُشْعَلَة يُشَبُّ ضِرامُها

مَشْمُولة غُلِثَتْ بنابت عرفج … كَدُخَان نار سَاطِع أسْنَامُها

فأعاد التشبيه بقوله : ( كدُخان نَار ) ليحقّق معنى التشبيه الأوّل . وفي «الكشاف» «تكرّر الكفر منهم لأنّهم كفروا بموسى ثم بعيسى ثم بمحمد صلوات الله عليهم فعطف بعض كفرهم على بعض» ، أي فالكفر الثاني اعتبر مخالفاً للذي قبله باعتبار عطف قوله : { وقولهم على مريم بهتاناً } . ونظيره قول عويف القوافي :

اللؤم أكرمُ من وَبْر ووالدِه … واللؤمُ أكرم من وَبْرٍ وما ولدا

إذْ عطف قوله : ( واللؤم أكرم من وبر ) باعتبار أنّ الثاني قد عطف عليه قولُه : ( وما ولدا ) .

والبهتان مصدر بَهَتَه إذا أتاه بقول أو عمل لا يترقّبه ولا يجد له جوابا ، والذي يتعمّد ذلك بَهُوت ، وجمعه : بُهُت وبُهْت . وقد زيّن اليهود ما شاءوا في الإفك على مريم عليها السلام .

التصنيفات
القرآن الكريم

تفسير ابن عاشور: سورة [آل عمران : 48]

قال الله تعالى: {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ} [آل عمران : 48]

تفسير ابن عاشور: جملة { ويعلّمه } معطوفة على جملة { ويكلّم الناس في المهد } [ آل عمران : 46 ] بعد انتهاء الاعتراض .

وقرأ نافع ، وعاصم : ويُعلّمه بالتحتِية أي يعلّمه اللَّهُ . وقرأه الباقون بنُون العظمة ، على الالتفات .

والكتاب مراد به الكتاب المعهود . وعطفُ التوراة تمهيد لعطف الإنجيل ويجوز أن يكون الكتاب بمعنى الكتابة وتقدم الكلام على التوراة والإنجيل في أول السورة .

التصنيفات
القرآن الكريم

تفسير ابن عاشور: سورة [آل عمران : 47]

قال الله تعالى: {قَالَتْ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ۖ قَالَ كَذَٰلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۚ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [آل عمران : 47]

تفسير ابن عاشور: قوله : { قالت رب } جملة معترضة ، من كلامها ، بين كلام الملائكة .

والنداء للتحسر وليس للخطاب : لأنّ الذي كلمها هو الملك ، وهي قد توجهت إلى الله .

والاستفهام في قولها { أنى يكون لي ولد } للإنكار والتعجّب ولذلك أجيب جوابين أحدهما كذلك الله يخلق ما يشاء فهو لرفع إنكارها ، والثاني إذا قضى أمراً إلخ لرفع تعجّبها .

وجملة { قال كذلك الله يخلق } إلخ جواب استفهامها ولم تعطف لأنّها جاءت على طريقة المحاورات كما تقدم في قوله تعالى : { قالوا أتجعل فيها ومابعدها } في سورة البقرة ( 30 ) والقائل لها هو الله تعالى بطريق الوحي .

واسم الإشارة في قوله : كذلك } راجع إلى معنى المذكور في قوله : { إن الله يبشرك بكلمة منه إلى قوله وكهلا } [ آل عمران : 45 ، 46 ] أي مثل ذلك الخلق المذكور يخلق الله ما يشاء . وتقديم اسم الجلالة على الفعل في قوله : { الله يخلق } لإفادة تقوى الحكم وتحقيق الخبر .

وعبر عن تكوين الله لعيسى بفعل يَخْلق : لأنّه إيجاد كائن من غير الأسباب المعتادة لإيجاد مثله ، فهو خلْق أنُفٌ غيرُ ناشىء عن أسباب إيجاد الناس ، فكان لفعل يخلُق هنا موقعٌ متعين ، فإنّ الصانع إذا صنع شيئاً من موادّ معتادة وصنعة معتادة ، لا يقول خلَقْت وإنما يقول صَنَعت .

التصنيفات
القرآن الكريم

تفسير ابن عاشور: سورة [آل عمران : 46]

قال الله تعالى: {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران : 46]

تفسير ابن عاشور: والمهد شِبْه الصندوق من خشب لا غطاء له يُمهد فيه مَضجع للصبي مدة رضاعه يُوضع فيه لحفظه من السقوط .

وخُص تكليمُه بحالين : حاللِ كونه في المَهد ، وحاللِ كونه كهلاً ، مع أنه يتكلّم فيما بين ذلك لأنّ لذَينك الحالين مزيدَ اختصاص بتشريف اللَّه إياه فأما تكليمه الناس في المهد فلأنه خارق عادة إرهاصاً لنبوءته . وأما تكليمهم كهلاً فمراد به دَعوتُه الناس إلى الشريعة . فالتكليم مستعمل في صريحه وفي كنايته باعتبار القرينة المعينة للمعنيين وهي ما تعلق بالفعل من المجرورين .

وعطف عليه { ومن الصالحين } فالمجرور ظرف مستقرّ في موضع الحال .

والصالحون الذين صفتهم الصلاح لا تفارقهم ، والصلاح استقامة الأعمال وطهارة النفس قال إبراهيم : { ربِّ هبْ لي من الصالحين } [ الصافات : 100 ] .

والكهل من دخل في عشرة الأربعين وهو الذي فارق عصر الشباب ، والمرأة شهلة بالشين ، ولا يقال كهلة كما لا يقال شهل للرجل إلاّ أن العرب قديماً سمّوا شهلاً مثل شهل بن شيبان الملقب الفِنْد الزِّماني فدلنا ذلك على أنّ الوصف أميت . وقد كان عيسى عليه السلام حيث بعث ابن نيف وثلاثين .

وقوله : { وجيهاً } حال من { كلمة } باعتبار ما صِدْقها . { ومن المقرّبين } عطف على الحال ، { ويكلم } جملة معطوفة على الحال المفردة : لأنّ الجملة التي لها محل من الإعراب لها حكم المفرد .

وقوله : { في المهد } حال من ضمير ( يكلّم ) . وكهلاً عطف على محلّ الجار والمجرور ، لأنهما في موضع الحال ، فعطف عليهما بالنصب ، { ومن الصالحين } معطوف على { ومن المقرّبين } .

التصنيفات
القرآن الكريم

تفسير ابن عاشور: سورة [آل عمران : 45]

قال الله تعالى: {إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [آل عمران : 45]

تفسير ابن عاشور: بدل اشتمال من جملة { وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك } [ آل عمران : 42 ] قصد منه التكرير لتكميل المقُول بعد الجمل المعترضة . ولكونه بدلاً لم يعطف على إذْ قالت الأوللِ . وتقدّم الكلام على يُبشرك .

والكلمة مراد بها كلمة التكوين وهي تعلق القدرة التنجيزي كما في حديث خلق الإنسان من قوله : «ويؤمر بأرْبَع كَلِمَات بكتب رزقه وأجله» إلخ .

ووصف عيسى بكلمة مراد به كلمة خاصة مخالفة للمعتاد في تكوين الجنين أي بدون الأسباب المعتادة .

وقوله : { منه } مِن للابتداء المجازي أي بدون واسطة أسباب النسل المعتادة وقد دلّ على ذلك قوله : { إذا قضى أمراً } [ البقرة : 117 ] .

وقوله : { اسمه المسيح عيسى ابن مريم } عبر عن العَلَم واللقَب والوصففِ بالاسم . لأنّ لثلاثتها أثراً في تمييز المسمّى . فأما اللقب والعلم فظاهر . وأما الوصف المفيد للنسب فلأنّ السامعين تعارفوا ذكر اسم الأب في ذكر الأعلام للتمييز وهو المتعارف ، وتذكر الأمّ في النسب إما للجهل بالأب كقول بعضهم : زياد بن سُمَيةَ قبل أن يُلْحق بأبي سفيان في زمننِ معاويةَ بن أبي سفيان ، وإما لأنّ لأمّه مفخراً عظيماً كقولهم : عَمْرو ابن هند ، وهو عمرو بن المنذر ملكُ العرب .

والمسيح كلمة عبرانية بمعنى الوصف . ونقلت إلى العربية علماً بالغلبة على عيسى وقد سمى متنصرة العرب بعضَ أبنائهم «عبد المسيح» وأصلها مَسِّيِّح بميم مفتوحة ثم سين مهملة مكسورة مشدّدة ثم ياء مثنّاة مكسورة مشدّدة ثم حاء مهملة ساكنة ونطق به بعض العرب بوزن سِكِّين .

ومعنى مسيح ممسوح بدهن المَسْحة وهو الزيت المعطّر الذي أمر الله موسى أن يتّخذه ليسكبه على رأس أخيه هارون حينما جعله كاهناً لبني إسرائيل ، وصارت كهنة بني إسرائيل يمسحون بمثله من يملِّكونهم عليهم من عهد شاول الملِك ، فصار المسيح عندهم بمعنى المَلِك : ففي أول سفر صمويل الثاني من كتب العهد القديم قال داود للذي أتاه بتاج شاول الملك المعروف عند العرب بطالوت «كيف لم تخف أن تمدّ يدك لتهلك مسيح الرب» .

فيحتمل أنّ عيسى سمّي بهذا الوصف كما يُسَمّون بمَلِك ويحتمل أنه لقبٌ لقبه به اليهود تهكماً عليه إذ اتهموه بأنه يحاول أن يصير ملكاً على إسرائيل ثم غَلب عليه إطلاق هذا الوصف بينهم واشتهر بعد ذلك ، فلذلك سمي به في القرآن .

والوجيه ذو الوجاهة وهي : التقدّم على الأمثال ، والكرامةُ بين القوم ، وهي وصف مشتق من الوَجْه للإنسان وهو أفضل أعضائه الظاهرة منه ، وأجمعها لوسائل الإدراك وتصريف الأعمال ، فأطلق الوجه على أول الشيء على طريقة الاستعارة الشائعة فيقال : وجهُ النهار لأول النهار قال تعالى : { وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وَجْهَ النهار واكفُروا آخرَه } [ آل عمران : 72 ] وقال الربيع بن زياد العبسي

: … مَن كان مسروراً بمقتل مالك

فليأتتِ نسوتنا بوجه نهار … وقال الأعشى

: … ولاَح لهم وَجْهَ العَشِيَّاتتِ سَمْلَقُ

ويقولون : هو وَجْه القوم أي سيّدهم والمقدّم بينهم . واشتق من هذا الاسم فعل وَجُه بضم الجيم ككَرُم فجاء منه وَجيه صفةً مشبّهة ، فوجيه الناس المكرّم بينهم ، ومقبول الكلمة فيهم ، قال تعالى في وصف موسى عليه السلام : { وكان عند اللَّه وجيهاً } .

التصنيفات
القرآن الكريم

تفسير ابن عاشور: سورة [آل عمران : 44]

قال الله تعالى: {ذَٰلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ۚ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [آل عمران : 44]

تفسير ابن عاشور: وقوله : { وما كنت لديهم } إيماء إلى خلوّ كتبهم عن بعض ذلك ، وإلاّ لقال : وما كنت تتلو كُتبهم مثل : «وما كنت تتلو من قبله من كتاب» أي إنّك تخبرهم عن أحوالهم كأنّك كنت لديهم .

وقوله : { إذ يلقون أقلامهم } وهي الأقلام التي يكتبون بها التوراة كانوا يقترعون بها في المشكلات : بأن يكتبوا عليها أسماء المقترعين أو أسماء الأشياء المقترع عليها ، والناس يصيرون إلى القرعة عند انعدام ما يرجّح الحق ، فكان أهل الجاهلية يستقسمون بالأزلام وجعل اليهود الاقتراع بالأقلام التي يكتبون بها التوراة في المِدراس رجاء أن تكون بركتها مرشدة إلى ما هو الخيْر . وليس هذا من شعار الإسلام وليس لإعمال القرعة في الإسلام إلاّ مواضع تمييز الحقوق المتساوية من كل الجهات وتفصيله في الفقه . وأشارت الآية إلى أنّهم تنازعوا في كفالة مريم حين ولدتها أمها حنّة ، إذ كانت يتيمة كما تقدم فحصل من هذا الامتنان إعلام بأنّ كفالة زكرياء مريم كانت بعد الاستقسام وفيه تنبيه على تنافسهم في كفالتها .

التصنيفات
القرآن الكريم

تفسير ابن عاشور: سورة [آل عمران : 43]

قال الله تعالى: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران : 43]

تفسير ابن عاشور: وإعادةُ النداء في قول الملائكة : { يا مريم اقنتي } لقصد الإعجاب بحالها ، لأنّ النداء الأول كفى في تحصيل المقصود من إقبالها لسماع كلام الملائكة ، فكان النداء الثاني مستعملاً في مجرّد التنبيه الذي ينتقل منه إلى لازمِه وهو التنويه بهذه الحالة والإعجاب بها ، ونظيره قول امرىء القيس :

تقول وقد مال الغَبيط بنامعَا … عقرتَ بعيري يا امرأ القيس فانْزِل

( فهو مستعمل في التنبيه المنتقل منه إلى التوبيخ ) .

والقنوت ملازمة العبادة ، وتقدم عند قوله تعالى : { وقوموا للَّه قانتين } في سورة [ البقرة : 238 ] .

وقدم السجود ، لأنّ أدخل في الشكر والمقَام هنا مقام شكر .

وقوله : مع الراكعين } إذن لها بالصلاة مع الجماعة ، وهذه خصوصية لها من بين نساء إسرائيل إظهاراً لمعنى ارتفاعها عن بقية النساء ، ولذلك جيء في الراكعين بعلامة جمع التذكير .

وهذا الخطاب مقدمة للخطاب الذي بعده وهو { يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه } [ آل عمران : 45 ] لقصد تأنيسها بالخبر الموالي لأنه لما كان حاصله يَجلب لها حَزناً وسوء قالة بين الناس ، مهّد له بما يجلب إليها مَسرّة ، ويوقنها بأنّها بمحل عناية الله ، فلا جرم أن تعلم بأنّ الله جاعل لها مخرجاً وأنّه لا يخزيها .

التصنيفات
القرآن الكريم

تفسير ابن عاشور: سورة [آل عمران : 42]

قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران : 42]

تفسير ابن عاشور: عطف على جملة { إذْ قالت امرأةُ فرعون } . انتقال من ذِكر أمّ مريم إلى ذكر مريم .

ومريم عَلَم عبراني ، وهو في العبرانية بكسر الميم ، وهو اسم قديم سميت به أخت موسى عليه السلام ، وليس في كتب النصارى ذكر لاسم أبي مريم أمِّ عيسى ولا لمولدها ولكنها تبتدىء فجأة بأنّ عذراء في بلد الناصرة مخطوبة ليوسف النجار ، قد حملت من غير زوج .

والعرب يطلقون اسم مريم على المرأة المترجّلة التي تكثر مجالسة الرجال كما قال رؤبة : قلت لزِير لَمْ تصله مريمهْ .

( والزير بكسر الزاي الذي يكثر زيارة النساء ) وقال في «الكشاف» : مريم في لغتهم أي لغة العبرانيين بمعنى العابدة .

وتكرّر فعل { اصطفاك } لأنّ الاصطفاء الأول اصطفاء ذاتي ، وهو جعلها منزّهة زكية ، والثاني بمعنى التفضيل على الغير . فلذلك لم يُعَدّ الأول إلى متعلّق . وعدُيّ الثاني . ونساء العالمين نساء زمانها ، أو نساء سائر الأزمنة . وتكليم الملائكة والاصطفاء يدلان على نبوءتها والنبوءة تكون للنساء دون الرسالة .