التصنيفات
القرآن الكريم

تفسير الطبري: سورة [المائدة : 110]

قال الله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَىٰ وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا ۖ وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ ۖ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي ۖ وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي ۖ وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِي ۖ وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ} [المائدة : 110]

تفسير الطبري: القول في تأويل قوله : إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لعباده: احذروا يومَ يجمع الله الرسلَ فيقول لهم: ماذا أجابتكم أممكم في الدنيا =” إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس “.


ف ” إذْ” من صلة أُجِبْتُمْ , كأنّ معناها: ماذا أجابت عيسى الأمم التي أرسل إليها عيسى.


فإن قال قائل: وكيف سئلت الرسل عن إجابة الأمم إيَّاها في عهد عيسى, ولم يكن في عهد عيسى من الرُّسل إلا أقلُّ ذلك؟ (6)

قيل: جائزٌ أن يكون الله تعالى ذكره عنى بقوله: فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ ، الرسلَ الذين كانوا أرسلوا في عهد عيسى، فخرَج الخبر مخرج الجميع, والمراد منهم من كان في عهد عيسى, كما قال تعالى ذكره: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ [سورة آل عمران : 173] ، والمراد واحدٌ من الناس, وإن كان مخرج الكلام على جميع الناس. (7)

قال أبو جعفر: ومعنى الكلام: ” إذ قال الله ” ، حين قال =” يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس ” ، يقول: يا عيسى اذكر أياديّ عندك وعند والدتك, (8) إذ قوّيتك برُوح القُدس و أعنتُك به. (9)


وقد اختلف أهل العربية في” أيدتك “، ما هو من الفعل.

فقال بعضهم: هو ” فعّلتك “, [” من الأيد “]، كما قولك: ” قوّيتك “” فعّلت ” من ” القوّة “. (10)


وقال آخرون: بل هو ” فاعلتك ” من ” الأيد “.

وروي عن مجاهد أنه قرأ: (إذْ آيَدْتُك)، بمعنى ” أفعلتك “، من القوّة والأيد. (11) .


وقوله: ” بروح القدس ” ، يعني: بجبريل. يقول: إذ أعنتك بجبريل.


وقد بينت معنى ذلك، وما معنى ” القدس “، فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (12)


القول في تأويل قوله : تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ (110)

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره، مخبرًا عن قِيله، لعيسى: اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ ، في حال تكليمك الناسَ في المهدِ وكهلا.


وإنما هذا خبر من الله تعالى ذكره: أنه أيده بروح القدس صغيرًا في المهد، &; 11-215 &; وكهلا كبيرًا = فردّ” الكهل ” على قوله ” في المهد “، لأن معنى ذلك: صغيرًا, كما قال الله تعالى ذكره: دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا ، [سورة يونس: 12] .


وقوله: ” وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ” ، يقول: واذكر أيضًا نعمتي عليك ” إذ علمتك الكتاب “، وهو الخطّ =” والحكمة “، وهي الفهم بمعاني الكتاب الذي أنـزلته إليك، وهو الإنجيل =” وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير “، يقول: كصورة الطير…… (13) =” بإذني” ، يعني بقوله ” تخلق ” تعمل وتصلح -” من الطين كهيئة الطير بإذني”، يقول: بعوني على ذلك، وعلمٍ منّي به =” فتنفخ فيها ” ، يقول: فتنفخ في الهيئة, قتكون الهيئة والصورة طيرًا بإذني =” وتبرئ الأكمه ” ، يقول: وتشفي” الأكمهَ”، وهو الأعمى الذي لا يبصر شيئًا، المطموس البصر=” والأبرص بإذني”.


وقد بينت معاني هذه الحروف فيما مضى من كتابنا هذا مفسرًا بشواهده، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (14)


وقوله ” وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات ” ، يقول: واذكر أيضًا نعمتي عليك بكفِّي عنك بني إسرائيل إذ كففتهم عنك، (15) وقد هموا بقتلك =” إذ جئتهم بالبينات ” ، يقول: إذ جئتهم بالأدِلة والأعلام المعجزة على نبوّتك، (16) وحقيقة ما أرسلتك به إليهم. (17) =” فقال الذين كفروا منهم “، يقول تعالى ذكره: فقال الذين جحدُوا نبوَّتك وكذبوك من بني إسرائيل=” إن هذا إلا سحر مبين “.


واختلفت القرأة في قراءة ذلك.

فقرأته قرأة أهل المدينة وبعض أهل البصرة: إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ يعني: يبين عمَّا أتى به لمن رأه ونظر إليه، أنه سحر لا حقيقةَ له.


وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفة: ( إن هذا إلا ساحر مبين ) ، بمعنى: ” ما هذا “, يعني به عيسى,” إلا ساحر مبين “, يقول: يبين بأفعاله وما يأتي به من هذه الأمور العجيبة عن نفسه، أنه ساحرٌ لا نبيٌّ صادق. (18)


قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أنَّهما قراءتان معروفتان صحيحتَا المعنى، متفقتان غير مختلفتين. وذلك أن كل من كان موصوفًا بفعل ” السحر “، فهو موصوف بأنه ” ساحر “. ومن كان موصوفًا بأنه ” ساحر “، فأنه موصوف بفعل ” السحر “. فالفعل دالٌ على فاعله، والصفة تدلُّ على موصوفها, والموصوف يدل على صفته، والفاعلُ يدلُّ على فعله. فبأي ذلك قرأ القارئ فمصيبٌ الصوابَ في قراءته.

————–

الهوامش :

(6) في المطبوعة: “إلا أقل من ذلك” ، زاد”من” ، فأفسد الكلام ، والصواب ما في المخطوطة.

(7) انظر ما سلف: 405 413.

(8) انظر تفسير”النعمة” فيما سلف من فهارس اللغة (نعم).

(9) انظر تفسير”أيد” فيما سلف 2: 319/5: 379/6: 242.

(10) الزيادة بين القوسين ، لا بد منها. وفي المطبوعة: “كما في قوله” بزيادة”في” ، والصواب ما في المخطوطة بحذفها.

(11) انظر معاني القرآن للفراء 1: 325. وهذا الذي ذكره هنا في”أيدتك” تفصيل أغفله في بيانه السالف في: 2: 319 ، وهذا من ضروب اختصاره في التفسير ، وهو دال أيضًا على طريقته في تأليف هذا التفسير.

(12) انظر تفسير”روح القدس” فيما سلف 2: 320 ، 321/5: 379.

(13) مكان هذا النقط بياض في المخطوطة ، وفي هامشها حرف (ط) ، دلالة على موضع خطأ. فأثبتها كذلك. وإن كنت أرجح أن سياق أبي جعفر يقتضي أن تكون عبارته هكذا:

{وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير ، يعني بقوله: “تخلق” ، تعمل وتصلح”من الطين كهيئة الطير” ، يقول: كصورة الطير: “بإذني” ، يقول: بعوني على ذلك . . . ومع ذلك ، فقد تركت ما في المخطوطة على ما هو عليه.

(14) انظر تفسير”المهد” فيما سلف 6: 417 = وتفسير”الكهل” 6: 417 ، 418 = وتفسير”الكتاب” ، و”الحكمة” فيما سلف من فهارس اللغة (كتب) و (حكم) = وأما تفسير”خلق” و”هيأة” بهذا المعنى ، فلم يذكره فيما سلف ، وإن كان ذلك مضى في 6: 424 وتفسير”أبرأ” 6: 428 = وتفسير”الأكمه” 6: 428 – 430 = وأما “الأبرص” فلم يفسره = وتفسير”الإذن” فيما سلف 10: 145 ، تعليق: 3 ، والمراجع هناك.

(15) انظر تفسير”الكف” فيما سلف 8: 548 ، 579/ 9: 29/10: 101

(16) انظر تفسير”البينات” فيما سلف من فهارس اللغة (بين).

(17) في المطبوعة: “وحقية ما أرسلتك” ، غيرها كما فعل مرارًا كثيرة فيما سلف ، والصواب ما في المخطوطة ، وانظر ما سلف 10: 242 ، تعليق: 1 ، والمراجع هناك.

(18) انظر تفسير”مبين” فيما سلف من فهارس اللغة (بين).

التصنيفات
القرآن الكريم

تفسير الطبري: سورة [المائدة : 75]

قال الله تعالى: {مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ ۖ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ ۗ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ} [المائدة : 75]

تفسير الطبري: القول في تأويل قوله : مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ

قال أبو جعفر: وهذا [خَبَرٌ] من الله تعالى ذكره، (19) احتجاجًا لنبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم على فِرَق النصارى في قولهم في المسيح.

يقول= مكذِّبًا لليعقوبية في قِيلهم: ” هو الله ” والآخرين في قيلهم: ” هو ابن الله ” =: ليس القول كما قال هؤلاء الكفرة في المسيح، ولكنه ابن مريم ولدته ولادةَ الأمهات أبناءَهن، وذلك من صفة البشر لا من صفة خالق البشر، وإنما هو لله رسولٌ كسائر رسله الذين كانوا قبلَه فمضوا وخَلَوْا، أجرى على يده ما شاء أن يجريه عليها من الآيات والعِبر، حجةً له على صدقه، وعلى أنه لله رسول إلى من أرسله إليه من خلقه، كما أجرى على أيدي من قبله من الرسل من الآيات والعِبر، حجةً لهم على حقيقةِ صدقهم في أنهم لله رسلٌ (20) =” وأمه صِدّيقة “، يقول تعالى ذكره وأمّ المسيح صِدِّيقةٌ.


و ” الصِدِّيقة “” الفِعِّيلة “، من ” الصدق “، وكذلك قولهم: ” فلان صِدِّيق “،” فِعِّيل ” من ” الصدق “، ومنه قوله تعالى ذكره: وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ . [سورة النساء: 69]. (21)

وقد قيل إن ” أبا بكر الصدّيق ” رضي الله عنه إنما قيل له: ” الصّدّيق ” لصدقه.

وقد قيل: إنما سمي” صديقًا “، لتصديقه النبي صلى الله عليه وسلم في مسيره في ليلة واحدةٍ إلى بيت المقدس من مكة، وعودِه إليها.


وقوله: ” كانا يأكلان الطعام “، خبٌر من الله تعالى ذكره عن المسيح وأمّه: أنهما كانا أهل حاجةٍ إلى ما يَغْذُوهما وتقوم به أبدانهما من المطاعم والمشارب كسائر البشر من بني آدم، فإنّ من كان كذلك، فغيرُ كائنٍ إلهًا، لأن المحتاج إلى الغذاء قِوَامه بغيره. وفي قوامه بغيره وحاجته إلى ما يقيمه، دليلٌ واضحٌ على عجزه. والعاجز لا يكون إلا مربوبًا لا ربًّا.


القول في تأويل قوله : انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75)

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: انظر يا محمد، كيف نبين لهؤلاء الكفرة من اليهود والنصارى=” الآيات “، وهي الأدلَّةُ، والأعلام والحُجج على بُطُول ما يقولون في أنبياء الله، (22) وفي فريتهم على الله، وادِّعائهم له ولدًا، وشهادتهم لبعض خلقه بأنه لهم ربٌّ وإله، ثم لا يرتدعون عن كذبهم وباطل قِيلهم، ولا ينـزجرون عن فريتهم على ربِّهم وعظيم جهلهم، مع ورود الحجج القاطعة عذرَهم عليهم. يقول تعالى ذكره لنبيِّه محمد صلى الله عليه &; 10-486 &; وسلم: ” ثم انظر “، يا محمد=” أنَّى يؤفكون “، يقول: ثم انظر، مع تبييننا لهم آياتنا على بُطول قولهم، أيَّ وجه يُصرَفون عن بياننا الذي نبيِّنه لهم؟ (23) وكيف عن الهدى الذي نهديهم إليه من الحق يضلُّون؟


والعرب تقول لكل مصروف عن شيء: ” هو مأفوك عنه “. يقال: ” قد أفَكت فلانًا عن كذا “، أي: صرفته عنه،” فأنا آفِكه أفْكًا، وهو مأفوك “. و ” قد أُفِكت الأرض “، إذا صرف عنها المطر. (24)

————-

الهوامش :

(19) الزيادة بين القوسين لا بد منها حتى يستقيم الكلام.

(20) انظر تفسير”المسيح” فيما سلف ص: 480 ، تعليق: 1 ، والمراجع هناك.

(21) انظر تفسير”الصديق” فيما سلف 8: 530- 532.

(22) انظر تفسير”الآيات” فيما سلف (أيي).

(23) المطبوعة: “بينته لهم” ، والصواب من المخطوطة ، وهي غير منقوطة.

(24) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 174 ، 175.

التصنيفات
القرآن الكريم

تفسير الطبري: سورة [المائدة : 17]

قال الله تعالى: {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ۚ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ۗ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ۚ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة : 17]

تفسير الطبري: القول في تأويل قوله عز ذكره : لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ

قال أبو جعفر: هذا ذمٌّ من الله عز ذكره للنصارى والنصرانية، الذين ضلُّوا عن سبل السلام= واحتجاجٌ منه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم في فِرْيتهم عليه بادّعائهم له ولدًا.

يقول جل ثناؤه: أقسم، لقد كفر الذين قالوا: إن الله هو المسيح ابن مريم= و ” كفرهم ” في ذلك، تغطيتهم الحقّ في تركهم نفي الولد عن الله جل وعز، وادِّعائهم أن المسيح هو الله، فرية وكذبًا عليه. (24)


وقد بينا معنى: ” المسيح ” فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (25) .


القول في تأويل قوله عز ذكره : قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا

قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه، لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، للنصارى الذين افتروا عليّ، وضلُّوا عن سواء السبيل بقيلهم: إنّ الله هو المسيح ابن مريم: ” من يملك من الله شيئًا “، يقول: من الذي يطيق أن يدفع من أمر الله جل وعز شيئا، فيردّه إذا قضاه.


= من قول القائل: ” ملكت على فلان أمره “، إذا صار لا يقدر أن ينفذ أمرًا إلا به. (26)


وقوله: ” إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعًا “، يقول: من ذا الذي يقدر أن يرد من أمر الله شيئًا، إن شاء أن يهلك المسيح ابن مريم، بإعدامه من الأرض وإعدام أمه مريم، وإعدام جميع من في الأرض من الخلق جميعا. (27)


يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهؤلاء الجهلة من النصارى: لو كان المسيح كما تزعمون= أنّه هو الله، وليس كذلك= لقدر أن يردَّ أمرَ الله إذا جاءه بإهلاكه وإهلاك أمه. وقد أهلك أمَّه فلم يقدر على دفع أمره فيها إذْ نـزل ذلك. ففي ذلك لكم معتَبرٌ إن اعتبرتم، وحجة عليكم إن عقلتم: في أن المسيح، بَشَر كسائر بني آدم، وأن الله عز وجل هو الذي لا يغلب ولا يقهر ولا يردُّ له &; 10-148 &; أمر، بل هو الحيُّ الدائم القيُّوم الذي يحيي ويميت، وينشئ ويفني، وهو حي لا يموت.


القول في تأويل قوله عز ذكره : وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يخْلُقُ مَا يَشَاءُ

قال أبو جعفر: يعني تبارك وتعالى بذلك: والله له تصريف ما في السماوات والأرض وما بينهما (28) = يعني: وما بين السماء والأرض= يهلك من يشاء من ذلك ويبقي ما يشاء منه، ويوجد ما أراد ويعدم ما أحبّ، لا يمنعه من شيء أراد من ذلك مانع، ولا يدفعه عنه دافع، يُنْفِذ فيهم حكمه، ويُمضي فيهم قضاءه= لا المسيح الذي إن أراد إهلاكه ربُّه وإهلاكَ أمّه، لم يملك دفع ما أراد به ربُّه من ذلك.


يقول جل وعز: كيف يكون إلهًا يُعبد من كان عاجزًا عن دفع ما أراد به غيره من السوء، وغير قادرٍ على صرف ما نـزل به من الهلاك؟ بل الإله المعبود، الذي له ملك كل شيء، وبيده تصريف كل من في السماءِ والأرض وما بينهما.


فقال جل ثناؤه: ” وما بينهما “، وقد ذكر ” السموات ” بلفظ الجمع، ولم يقل: ” وما بينهن “، لأن المعنى: وما بين هذين النوعين من الأشياء، كما قال الراعي:

طَرَقَــا, فَتِلْـكَ هَمَـاهِمِي, أَقْرِيهِمَـا

قُلُصًــا لَــوَاقِحَ كَالقِسِـيِّ وَحُـولا (29)

فقال: ” طرقا “، مخبًرا عن شيئين، ثم قال: ” فتلك هَمَاهمي”، فرجع إلى معنى الكلام.


وقوله: ” يخلق ما يشاء “، يقول جل ثناؤه: وينشئ ما يشاء ويوجده، ويخرجُه من حال العدم إلى حال الوجود، ولن يقدر على ذلك غير الله الواحد القهَّار. وإنما يعني بذلك، أنّ له تدبير السموات والأرض وما بينهما وتصريفه، وإفناءه وإعدامه، وإيجادَ ما يشاء مما هو غير موجود ولا مُنْشأ. يقول: فليس ذلك لأحد سواي، فكيف زعمتم، أيها الكذبة، أنّ المسيح إله، وهو لا يطيق شيئا من ذلك، بل لا يقدر على دفع الضرَر عن نفسه ولا عن أمه، ولا اجتلابِ نفعٍ إليها إلا بإذني؟


القول في تأويل قوله عز ذكره : وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)

قال أبو جعفر: يقول عز ذكره: الله المعبودُ، هو القادر على كل شيء، والمالك كلَّ شيء، الذي لا يعجزُه شيء أراده، ولا يغلبه شيء طلبه، المقتدرُ على هلاك المسيح وأمه ومن في الأرض جميعًا = لا العاجز الذي لا يقدر على منع نفسه من ضُرّ نـزل به من الله، ولا منْعِ أمّه من الهلاك. (30)


———————–

الهوامش :

(24) انظر تفسير”الكفر” فيما سلف من فهارس اللغة.

(25) انظر تفسير”المسيح” فيما سلف 9: 417 ، تعليق: 1 ، والمراجع هناك.

(26) هذا بيان قلما تصيبه في كتب اللغة.

(27) انظر تفسير”الإهلاك” فيما سلف 4: 239 ، 240/9: 430.

(28) انظر تفسير”الملك” فيما سلف 8: 48 ، تعليق: 3 ، والمراجع هناك.

(29) من قصيدته في جمهرة أشعار العرب: 173 ، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 118 ، 160 ، يقول لابنته خليدة:

لَمَّــا رَأَتْ أَرَقِــي وَطُـولَ تَلَـدُّدِي

ذَاتَ الْعِشَــاء وَلَيْــلَيِ الْمَوْصُــولا

قَـالَتْ خُـلَيْدَةُ: مَـا عَـرَاكَ، وَلَمْ تَكُنْ

أَبَــدًا إِذَا عَــرَتِ الشُّـئُونُ سَـؤُولا

أَخُــلَيْدَ، إِنَّ أَبَــاكِ ضَـافَ وِسَـادَهُ

هَمَّــان باتَـــا جَنْبَــةً وَدَخِــيلا

طَرَقَــا، فَتِلْــكَ هَمَــا هِــي….

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

“الهماهم”: الهموم. و”قلص” جمع”قلوص”: الفتية من الإبل.”لواقح”: حوامل ، جمع”لاقح”. و”الحول” ، جمع”حائل” ، وهي الناقة التي لم تحمل سنة أو سنتين أو سنوات ، وكذلك كل حامل ينقطع عنها الحمل. يقول: أجعل قرى هذه الهموم ، نوقًا هذه صفاتها ، كأنها قسى موترة من طول أسفارها ، فأضرب بها الفيافي.

والشاهد الذي أراده الطبري أنه قال: “فتلك هماهمي” ، وقد ذكر قبل”همان” ، ثم عاد بعد يقول: “أقريهما” ، وقد قال: “فتلك هماهمي” جمعًا. وانظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 118 ، 160.

(30) انظر تفسير”قدير” فيما سلف من فهارس اللغة.

التصنيفات
القرآن الكريم

تفسير الطبري: سورة [النساء : 171]

قال الله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ ۚ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ ۖ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ۖ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ ۚ انتَهُوا خَيْرًا لَّكُمْ ۚ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ ۘ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا} [النساء : 171]

تفسير الطبري: القول في تأويل قوله : يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: ” يا أهل الكتاب “، يا أهل الإنجيل من النصارى=” لا تغلوا في دينكم “، يقول: لا تجاوزوا الحق في دينكم فتفرطوا فيه، ولا تقولوا في عيسى غير الحق، فإن قيلكم في عيسى إنه ابن الله، قول منكم على الله غير الحق. لأن الله لم يتخذ ولدًا فيكون عيسى أو غيره من خلقه له ابنًا=” ولا تقولوا على الله إلا الحق “.


وأصل ” الغلو “، في كل شيء مجاوزة حده الذي هو حدّه. يقال منه في الدين: ” قد غلا فهو يغلو غلوًّا “، و ” غَلا بالجارية عظمها ولحمها “، إذا أسرعت الشباب فجاوزت لِدَاتها=” يغلو بها غُلُوًّا، وغَلاءً”، ومن ذلك قول الحارث بن خالد المخزومي:

خُمْصَانَـــةٌ قَلِـــقٌ مُوَشَّـــحُها

رُؤْدُ الشَّــبَابِ غَــلا بِهَــا عَظْـمُ (1)


وقد:-

10853- حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، &; 9-417 &; عن أبيه، عن الربيع قال: صاروا فريقين: فريق غلَوا في الدين، فكان غلوهم فيه الشك فيه والرغبة عنه، وفريق منهم قصَّروا عنه، ففسقوا عن أمر ربهم.


القول في تأويل قوله : إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ

قال أبو جعفر: يعني ثناؤه بقوله: ” إنما المسيح عيسى ابن مريم “، ما المسيح، أيها الغالون في دينهم من أهل الكتاب، بابن الله، كما تزعمون، ولكنه عيسى ابن مريم، دون غيرها من الخلق، لا نسب له غير ذلك. ثم نعته الله جل ثناؤه بنعته ووصفه بصفته فقال: هو رسول الله أرسله الله بالحق إلى من أرسله إليه من خلقه.


وأصل ” المسيح “،” الممسوح “، صرف من ” مفعول ” إلى ” فعيل “. وسماه الله بذلك لتطهيره إياه من الذنوب. وقيل: مُسِح من الذنوب والأدناس التي تكون في الآدميين، كما يمسح الشيء من الأذى الذي يكون فيه، فيطهر منه. ولذلك قال مجاهد ومن قال مثل قوله: ” المسيح “، الصدّيق. (2)


وقد زعم بعض الناس أنّ أصل هذه الكلمة عبرانية أو سريانية ” مشيحا “، فعربت فقيل: ” المسيح “، كما عرب سائر أسماء الأنبياء التي في القرآن مثل: ” إسماعيل ” و ” إسحاق ” و ” موسى ” و ” عيسى “.


قال أبو جعفر: وليس ما مثَل به من ذلك لـ” المسيح ” بنظير. وذلك أن ” إسماعيل ” و ” إسحاق ” وما أشبه ذلك، أسماء لا صفات، و ” المسيح ” صفة. وغير جائز أن تخاطب العرب، وغيرها من أجناس الخلق، في صفة شيء إلا بمثل ما تفهم عمَّن خاطبها. ولو كان ” المسيح ” من غير كلام العرب، ولم تكن العرب تعقل معناه، ما خوطبت به. وقد أتينا من البيان عن نظائر ذلك فيما مضى بما فيه الكفاية عن إعادته. (3)


وأما ” المسيح الدجال “، فإنه أيضًا بمعنى: الممسوح العين، صرف من ” مفعول ” إلى ” فعيل “. فمعنى: ” المسيح ” في عيسى صلى الله عليه وسلم: الممسوح البدن من الأدناس والآثام= ومعنى: ” المسيح ” في الدجال: الممسوح العين اليمنى أو اليسرى، كالذي روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك. (4)


وأما قوله: ” وكلمته ألقاها إلى مريم “، فإنه يعني: بـ ” الكلمة “، الرسالة التي أمرَ الله ملائكته أن تأتي مريم بها، بشارةً من الله لها، التي ذكر الله جل ثناؤه في قوله: إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ [سورة آل عمران: 45]، يعني: برسالة منه، وبشارة من عنده.


وقد قال قتادة في ذلك ما:-

10854- حدثنا به الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة: ” وكلمته ألقاها إلى مريم “، قال: هو قوله: ” كن “، فكان.


وقد بينا اختلاف المختلفين من أهل الإسلام في ذلك فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (5)


وقوله: ” ألقاها إلى مريم “، يعني: أعلمها بها وأخبرها، كما يقال: ” ألقيت إليك كلمة حسنة “، بمعنى: أخبرتك بها وكلّمتك بها. (6)


وأما قوله: ” وروح منه “، فإن أهل العلم اختلفوا في تأويله.

فقال بعضهم: معنى قوله: ” وروح منه “، ونفخة منه، لأنه حدث عن نفخة جبريل عليه السلام في دِرْع مريم بأمر الله إياه بذلك، (7) فنسب إلى أنه ” روح من الله “، لأنه بأمره كان. قال: وإنما سمي النفخ ” روحًا “، لأنها ريح تخرج من الرُّوح، واستشهدوا على ذلك من قولهم بقول ذي الرمة في صفة نار نعتها:

فَلَمَّــا بَـدَتْ كَفَّنْتُهـا, وَهْـيَ طِفْلَـةٌ

بِطَلْسَـاءَ لَـمْ تَكْمُـلْ ذِرَاعًـا وَلا شِبْرَا (8)

وَقُلْـتُ لَـهُ ارْفَعْهَـا إِلَيْـكَ, وَأَحْيِهَـا

بِرُوحِـكَ, وَاقْتَتْـهُ لَهَـا قِيتَـةً قَـدْرَا

وَظَـاهِرْ لَهَا مِنْ يَابِس الشَّخْتِ, وَاسْتَعِنْ

عَلَيْهَـا الصَّبَـا, وَاجْعَلْ يَدَيْكَ لَهَا سِتْرَا

[وَلَمَّا تَنَمَّـتْ تَـأْكُلُ الـرِّمَّ لَـمْ تَـدَعْ

ذَوَابِـلَ مِمَّـا يَجْـمَعُونَ ولا خُـضْرَا]

فَلَمَّـا جَـرَتْ فـي الْجَـزْلِ جَرْيًا كَأَنَّهُ

سَـنَا الـبَرْقِ, أَحْدَثْنَـا لِخَالِقِهَـا شُكْرَا

وقالوا: يعني بقوله: ” أحيها بروحك “، أي: أحيها بنفخك.


وقال بعضهم يعني بقوله: ” وروح منه ” إنه كان إنسانًا بإحياء الله له بقوله: ” كن “. قالوا: وإنما معنى قوله: ” وروح منه “، وحياة منه، بمعنى إحياءِ الله إياه بتكوينه.


وقال آخرون: (9) معنى قوله: ” وروح منه “، ورحمة منه، كما قال جل ثناؤه في موضع آخر: وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ [سورة المجادلة: 22]. قالوا: ومعناه في هذا الموضع: ورحمة منه. (10) قالوا: فجعل الله عيسى رحمة منه على من اتبعه وآمن به وصدّقه، لأنه هداهم إلى سبيل الرشاد.


وقال آخرون: معنى ذلك: وروح من الله خلقها فصورها، ثم أرسلها إلى مريم فدخلت في فيها، فصيَّرها الله تعالى روحَ عيسى عليه السلام.


*ذكر من قال ذلك:

10855- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن سعد قال، أخبرني أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية، عن أبيّ بن كعب في قوله: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ، [سورة الأعراف: 172]، قال: أخذهم فجعلهم أرواحًا، ثم صوَّرهم، ثم &; 9-422 &; استنطقهم، فكان روح عيسى من تلك الأرواح التي أخِذ عليها العهد والميثاق، فأرسل ذلك الروح إلى مريم، فدخل في فيها، فحملت الذي خاطبها، وهو روح عيسى عليه السلام. (11)


وقال آخرون: معنى ” الروح ” ههنا، جبريل عليه السلام. قالوا: ومعنى الكلام: وكلمته ألقاها إلى مريم، وألقاها أيضًا إليها روح من الله. قالوا: فـ” الروح ” معطوف به على ما في قوله: ” ألقاها ” من ذكر الله، بمعنى: أنّ إلقاء الكلمة إلى مريم كان من الله، ثم من جبريل عليه السلام.


قال أبو جعفر: ولكل هذه الأقوال وجه ومذهب غير بعيدٍ من الصواب.


القول في تأويل قوله : فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: ” فآمنوا بالله ورسله “، فصدِّقوا، يا أهل الكتاب، بوحدانية الله وربوبيته، وأنه لا ولد له، وصدِّقوا رسله فيما جاءوكم به من عند الله، وفيما أخبرتكم به أن الله واحد لا شريك له، ولا صاحبة له، لا ولد له =” ولا تقولوا ثلاثة “، يعني: ولا تقولوا: الأربابُ ثلاثة.


ورفعت ” الثلاثة “، بمحذوف دلّ عليه الظاهر، وهو ” هم “. ومعنى الكلام: ولا تقولوا هم ثلاثة. وإنما جاز ذلك، لأن ” القول ” حكاية، والعرب تفعل ذلك في الحكاية، ومنه قول الله: سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ ، [سورة الكهف: 22]. وكذلك كل ما ورد من مرفوع بعد ” القول ” لا رافع معه، ففيه إضمار اسم رافع لذلك الاسم.


ثم قال لهم جل ثناؤه: متوعدًا لهم في قولهم العظيم الذي قالوه في الله: ” انتهوا “، أيها القائلون: الله ثالث ثلاثة، عما تقولون من الزور والشرك بالله، فإن الانتهاء عن ذلك خير لكم من قِيله، لما لكم عند الله من العقاب العاجل لكم على قِيلكم ذلك، إن أقمتم عليه، ولم تُنيبوا إلى الحق الذي أمرتكم بالإنابة إليه= والآجلِ في معادكم. (12)


القول في تأويل قوله : إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا (171)

قال أبو جعفر: يعني بقوله: ” إنما الله إله واحد “، ما الله، أيها القائلون: الله ثالث ثلاثة، كما تقولون، لأن من كان له ولد، فليس بإله. وكذلك من كان له صاحبة، فغير جائز أن يكون إلهًا معبودًا. ولكن الله الذي له الألوهة والعبادة، إله واحد معبود، لا ولد له، ولا والد، ولا صاحبة، ولا شريك.

ثم نـزه جل ثناؤه نفسه وعظَّمها ورفعها عما قال فيه أعداؤه الكَفرة به فقال: ” سبحانه أن يكون له ولد “، يقول: علا الله وجل وعز وتعظمَّ وتنـزه عن أن يكون له ولد أو صاحبة. (13)

ثم أخبر جل ثناؤه عباده: أن عيسى وأمَّه ومن في السموات ومن في الأرض، عبيدُه وإماؤه وخلقه، (14) وأنه رازقهم وخالقهم، وأنهم أهل حاجة وفاقة إليه= احتجاجًا منه بذلك على من ادّعى أن المسيح ابنه، وأنه لو كان ابنه كما قالوا، لم يكن ذا حاجة إليه، ولا كان له عبدًا مملوكًا، فقال: ” له ما في السموات وما في الأرض “، يعني: لله ما في السموات وما في الأرض من الأشياء كلها ملكًا وخلقًا، وهو يرزقهم ويَقُوتهم ويدبِّرهم، فكيف يكون المسيح ابنًا لله، وهو في الأرض أو في السموات، غيرُ خارج من أن يكون في بعض هذه الأماكن؟

وقوله: ” وكفى بالله وكيلا “، يقول: وحسب ما في السموات وما في الأرض بالله قَيِّمًا ومدبِّرًا ورازقًا، من الحاجة معه إلى غيره. (15)

—————–

الهوامش :

(1) الأغاني 9 : 226 ، مجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 143 ، اللسان (غلا). وفي الأغاني”علا” بالعين المهملة ، وهو خطأ يصحح.

وقد مضى بيت من هذه القصيدة في 1 : 116 ، تعليق: 3 ، وذكرت خبرها هناك ، وهو من أبيات يذكر فيها صاحبته وما مضى من أيامه وأيامها:

إِذْ وُدُّهَـــا صَـــافٍ، وَرُؤْيَتُهَــا

أُمْنِيّــــةٌ، وَكَلامُهَـــا غُنْـــمُ

لَفَّــــاءُ مَمْلُـــوءُ مُخَلْخَلُهَـــا

عَجْـــزاءُ لَيْسَ لِعَظْمِهَــا حَجْــمُ

خُمْصَانَـــــــةٌ …………….

. . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وَكَــــأَنَّ غَالِيَـــةً تُبَاشِـــرُها

تَحْــتَ الثِّيَــابِ، إِذَا صَغَـا النَّجْـمُ

وهو شعر جيد ، وصفة حسنة للمرأة.”لفاء” ، ملتفة الفخذين ، مكتنز لحمها ، وهو حسن في النساء ، قبيح في الرجال.”مملوء مخلخلها” ، موضع خلخالها ، خفيت عظامها تحت اللحم ، وهو صفة حسنة ، لم تظهر عظامها كأنها دقت بالمسامير.”عجزاء”: حسنة العجيزة.”خمصانة” (بفتح الخاء وضمها): ضامرة البطن.”قلق موشحها” ، قد استوى خلقها ، فالوشاح يجول عليها من ضمورها ، لم يمتلئ لحمًا يجعلها لحمة واحدة!!”رؤد الشباب”: شابة حسنة تهتز من النعمة وإشراق اللون. و”الغالية”: ضرب من الطيب.”صغا النجم”: مال للمغيب ، وذلك في مطلع الفجر ، حين تتغير أفواه البشر وأبدانهم ، وتظهر لها رائحة لا تستحب. وقل في الناس من يكون بهذه الصفة!!

(2) انظر ما سلف 6 : 414 ، فهناك تجد قول مجاهد هذا. وقد علقت هناك ، وأشرت إلى اختصار أبي جعفر ، ورجحت ما في الكلام نقص. وهذا الموضع من كلامه يدل على أن أبا جعفر نفسه هو الذي اختصر الكلام اختصارًا هناك ، من النسيان فيما أرجح ، أو لأنه ألف تفسيره على فترات تباعدت عليه. ولولا ذلك لأشار هنا -كعادته- إلى الموضع السالف الذي فسر فيه معنى”المسيح”.

(3) انظر ما سلف 1 : 13-24.

(4) هو ما جاء في الأحاديث الصحاح عن جماعة من الصحابة في صفة المسيح الدجال ، أعاذنا الله من فتنته. من ذلك حديث حذيفة (مسلم 18 : 60) قال:

(قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الدَجَّالُ أعورُ العَيْنِ اليُسْرَى ، جُفَال الشَّعَرَ ، معهُ جنَّةٌ ونارٌ ، فَنَارُهُ جَنَّةٌ ، وجَنَّتُه نارٌ).

وحديث ابن عمر:

(أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ذكر الدجّال بين ظَهْرَانَي الناس فقال: إِنَّ الله ليسَ بأَعْور ، أَلا وإنَّ المسيحَ الدَّجَّالَ أعْوَرُ العين اليُمْنَى ، كأَن عينه عِنَبَةٌ طَافيةٌ).

وأحاديث الدجال كثيرة ، مختلفة الألفاظ ، مختصرة ومطولة. فاللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم ، ومن عذاب القبر ، ومن فتنة المحيا والممات ، ومن فتنة المسيح الدجال.

(5) انظر تفسير”الكلمة” فيما سلف 6 : 411 ، 412.

(6) هذا معنى يقيد في كتب اللغة ، فإنك قلما تصيبه فيها ، وهو بيان واضح جدًا.

(7) “درع المرأة”: قميصها الذي يحميها أعين الفساق ، كما تحمي الدرع لابسها. وبعيد أن يسمى شيء من لباس المرأة اليوم”درعًا” ، فإنها لا تدرع من شيء ، والرجل لا يتورع عن شيء!! والله المستعان.

(8) ديوانه: 176 ، واللسان (روح) ، والمزهر 1 : 556 ، وغيرها. هذا ، وليس في المخطوطة غير الأبيات الثلاثة الأولى ، وزادت المطبوعة ، بيتًا رابعًا ، لكن قبله في شعر ذي الرمة بيت ، فزدته من ديوانه ، ووضعته بين قوسين ، لأنه من تمام معنى الأبيات.

وقبل هذه الأبيات ، أبيات في صفة استخراج سقط النار من الزند بالقدح ، فلما اقتدحها كفنها كما ذكر في سائر الشعر. فقوله: “فلما بدت” ، أي بدا سقط النار من الزند الأعلى عند القدح ، “كفنها” ضمنها خرقة وسخة ، لم تبلغ ذراعًا ولا شبرًا ، وهي التي سماها”طلساء” ، لسوادها من وسخها. وكانت”طفلة” لأنها سقطت من أمها لوقتها فتلقاها في الخرقة التي جعلها لها كفنًا. وإنما جعلها”كفنًا”: لها ، لأن السقط يسقط من الزند يزهر ويضيء حيًا ، فإذا وقع في قلب القطنة ، لم تر له ضوءًا ، فكأنه السقط قد مات. ولكنه عاد يتابع السقط حتى يحييه مرة أخرى فقال لصاحبه: “ارفعها إليك” ، أي خذها بيدك ، وارفعها إلى فمك ، ثم”أحيها بروحك” ، أي انفخ لها نفخًا يسيرًا ، “واقتته لها قيتة قدرًا” ، يأمره بالرفق والنفح القليل شيئًا فشيئًا ، كأنه جعل النفخ قوتًا لهذا الوليد ، يقدر له تقديرًا ، شيئًا بعد شيء حتى يكتمل.

ثم لما فرغ من ذلك ، ونمت النار بعض النمو ، قال له: “ظاهر لها من يابس الشخت” ، أي اجعل دقيق الحطب اليابس بعضه على بعض ، وأطعم هذا الوليد= و”الشخت”: الدقيق من كل شيء ، = وذلك لتكون النار فيه أسرع. ثم يقول له: استقبل بها ريح الصبا ليكون ذلك لها نماء ، “واجعل يديك لها سترًا” ، أي: ليسترها من النواحي الأخرى حتى تضربها الصبا ، فلا تموت مرة أخرى.

ثم عاد فوصف نموها يقول: “ولما تنمت” وارتفعت ، “تأكل الرم” ، تأكل ما يبس من أعواد الشجر ، لم تدع بعد ذلك يابسًا ولا أخضر مما ظلوا يجمعونه لها ، وذلك حين استوت وبلغت أشدها. فلما رأوا النار تجري بعد ذلك في”الجزل” – وهو ما غلظ من الحطب ويبس – كأن ضوءها سنا البرق ، رفعوا أيديهم شكرًا للذي خلقهم وخلق النار.

وهذا شعر جيد مستقيم على النهج.

ومما يقيد هنا ، ما رواه السيوطي في المزهر ، عن أبي عبيد في الغريب المصنف أن الأصمعي قال: أخبرني عيسى بن عمر ، قال: أنشدني ذو الرمة:

وَظَـاهِرْ لَهَـا مـن يَـابِس الشَّـخْتِ

ثم أنشد بعد هذا:

مِــــنْ بَــــائِسِ الشَّـــخْتِ

قال أبو عبيد: فقلت له: إنك أنشدتني”من يابس الشخت”؟ فقال: اليبس من البؤس. قال السيوطي: وذلك إسناد متصل صحيح ، فإن أبا عبيد سمعه من الأصمعي.

وكان في المطبوعة: “جرت للجزل” و”لخالقها” ، وأثبت رواية الديوان.

(9) في المطبوعة: “وقال بعضهم” ، وأثبت ما في المخطوطة.

(10) في المطبوعة: “قال” بالإفراد ، وأثبت ما في المخطوطة.

(11) في المطبوعة: “فحملت ، والذي خاطبها هو روح عيسى …” حذف ، الواو من آخر الجملة ، وأثبتها في أولها ، فرددته إلى أصله في المخطوطة ، وهو الصواب. ويعني قوله تعالى في سورة مريم 24: (فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا).

وهذا الأثر لم يرد في تفسير آية الأعراف في موضعه هناك ، وهو أحد الأدلة على اختصار أبي جعفر تفسيره ، وأحد وجوه منهجه في الاختصار.

(12) قوله: “والآجل في معادكم” معطوف على قوله: “من العقاب العاجل لكم …”

(13) انظر تفسير”سبحان” فيما سلف 1 : 474-476 ، 495 / 2 : 537.

(14) في المطبوعة: “وملكه وخلقه” ، وفي المخطوطة: “وإماله وخلقه” فرجحت قراءتها كما أثبتها.

(15) انظر تفسير”الوكيل” فيما سلف: ص: 297 ، تعليق: 2 ، والمراجع هناك.

التصنيفات
القرآن الكريم

تفسير الطبري: سورة [النساء : 156]

قال الله تعالى: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَىٰ مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا} [النساء : 156]

تفسير الطبري: القول في تأويل قوله : وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156)

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وبكفر هؤلاء الذين وصف صفتهم=” وقولهم على مريم بهتانًا عظيمًا “، يعني: بفريتهم عليها، ورميهم إياها بالزنا، وهو ” البهتان العظيم “، لأنهم رموها بذلك، وهي مما رموها به بغير ثَبَتٍ ولا برهان بريئة، فبهتوها بالباطل من القول. (11)

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

*ذكر من قال ذلك:

10776- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ” وقولهم على مريم بهتانًا عظيمًا “، يعني: أنهم رموها بالزنا.

10777- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله: ” وقولهم على مريم بهتانًا عظيمًا “، حين قذفوها بالزنا.

10778- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا يعلى بن عُبَيد، عن جويبر في قوله: ” وقولهم على مريم بهتانًا عظيمًا “، قال: قالوا: ” زنت “.

—————–

الهوامش :

(11) انظر تفسير”البهتان” فيما سلف 5 : 432 / 8 : 124 / 9 ، 197.

التصنيفات
القرآن الكريم

تفسير الطبري: سورة [آل عمران : 48]

قال الله تعالى: {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ} [آل عمران : 48]

تفسير الطبري: القول في تأويل قوله : وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ (48)

قال أبو جعفر: اختلفت القرأةُ في قراءة ذلك.

فقرأته عامة قرأة الحجاز والمدينة وبعض قرأة الكوفيين: (وَيُعلِّمُهُ) بالياء، ردًّا على قوله: كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ،” وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ “، فألحقوا الخبرَ في قوله: ” ويعلمه “، بنظير الخبر في قوله: يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ، وقوله: فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ .


وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين وبعض البصريين: (وَنُعَلِّمُهُ) بالنون، عطفًا به على قوله: نُوحِيهِ إِلَيْكَ ، كأنه قال: ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ونعلمه الكتاب “. وقالوا: ما بعد نُوحِيهِ في صلته إلى قوله: كُنْ فَيَكُونُ ، ثم عطف بقوله: ” ونعلمه ” عليه.


قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أنهما قراءتان مختلفتان، غير مختلفتي المعاني، فبأيتهما قرأ القارئ فهو مصيب الصوابَ في ذلك، لاتفاق معنى القراءتين، في أنه خبر عن الله بأنّه يعلم عيسى الكتاب، وما ذكر أنه يعلمه.


وهذا ابتداء خبر من الله عز وجل لمريم ما هو فاعلٌ بالولد الذي بشَّرها به من الكرامة ورفعة المنـزلة والفضيلة، فقال: كذلك الله يخلق منك ولدًا، من غير فحل ولا بعل، فيعلمه الكتاب، وهو الخطّ الذي يخطه بيده = والحكمة، وهي السنة التي يُوحيها إليه في غير كتاب = والتوراة، وهي التوراة التي أنـزلت على موسى، كانت فيهم من عهد موسى = والإنجيل، إنجيل عيسى ولم يكن قبله، ولكن الله أخبر مريمَ قبل خلق عيسى أنه مُوحيه إليه.

وإنما أخبرها بذلك فسَّماه لها، لأنها قد كانت علمت فيما نـزل من الكتب أن الله باعثٌ نبيًا، يوحى إليه كتابًا اسمه الإنجيل، فأخبرها الله عز وجل أن ذلك النبي صلى الله عليه وسلم الذي سَمعت بصفته الذي وعد أنبياءه من قبل أنه منـزل عليه الكتاب الذي يسمى إنجيلا هو الولد الذي وهبه لها وبشَّرها به.


وبنحو ما قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

7080 – حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج: ” ونعلمه الكتاب “، قال: بيده.

7081 – حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: ” ونعلمه الكتاب والحكمة “، قال: الحكمة السنة.

7082 – حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة في قوله: ” ونعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل “، قال: ” الحكمة ” السنة =” والتوراة والإنجيل “، قال: كان عيسى يقرأ التوراةَ والإنجيل.

7083 – حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: ” ونعلمه الكتاب والحكمة “، قال: الحكمة السنة.

7084 – حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير قال: أخبرها – يعني أخبر الله مريم – ما يريد به فقال: ” ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة ” التي كانت فيهم من عهد موسى =” والإنجيل “، كتابًا آخر أحدثه إليه لم يكن عندهم علمه، إلا ذِكرُه أنه كائن من الأنبياء قبله. (16)

—————————–

الهوامش :

(16) الأثر: 7084- سيرة ابن هشام 2: 230 ، من تمام الآثار التي آخرها رقم: 7079. وفي ابن هشام: “لم يكن عندهم إلا ذكره أنه كائن من الأنبياء بعده” ، أسقط”علمه” ومكان”قبله””بعده” ، والصواب فيها نص الطبري في روايته عن ابن إسحاق.

التصنيفات
القرآن الكريم

تفسير الطبري: سورة [آل عمران : 47]

قال الله تعالى: {قَالَتْ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ۖ قَالَ كَذَٰلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۚ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [آل عمران : 47]

تفسير الطبري: القول في تأويل قوله : قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47)

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه، قالت مريم = إذ قالت لها الملائكة أنّ الله يبشرك بكلمة منه =: ” ربِّ أنَّى يكون لي ولد “، من أيِّ وجه يكون لي ولد؟ (12) أمِن قبل زوج أتزوجه وبعل أنكحه، أمْ تبتدئ فيَّ خلقه من غير بعل ولا فحل، (13) ومن غير أن يمسَّني بشر؟ فقال الله لها =” كذلك الله يخلق ما يشاء “، يعني: هكذا يخلق الله منك ولدًا لك من غير أن يمسَّك بشر، فيجعله آيةً للناس وعبرة، فإنه يخلق ما يشاء ويصنعُ ما يريد، فيعطي الولد &; 6-421 &; من يشاء من غير فحل ومن فحلٍ، ويحرِمُ ذلك من يشاءُ من النساء وإن كانت ذات بعلٍ، لأنه لا يتعذر عليه خلق شيء أراد خلقه، إنما هو أن يأمر إذا أراد شيئًا ما أراد [خلقه] فيقول له: (14) ” كن فيكون ” ما شاء، مما يشاء، وكيف شاء، كما:-

7079 – حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: ” قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشرٌ قال كذلك الله يخلق ما يشاء “، يصنع ما أراد، ويخلق ما يشاء، من بشر أو غير بشر =” إذا قضى أمرًا فإنما يقول له كن “، مما يشاء وكيف يشاء =” فيكون ” ما أراد. (15)

———————

الهوامش:

(12) انظر تفسير”أنى” فيما سلف 4: 398-416 / 5: 312 ، 447 / 6: 358.

(13) في المخطوطة: “أي تبتدئ” ، وهو خطأ ، وفي المطبوعة: “أو تبتدئ” وآثرت الذي أثبت.

(14) ما بين القوسين زيادة استظهرتها من السياق.

(15) الأثر: 7079- سيرة ابن هشام 2: 230 من بقية الآثار التي آخرها رقم: 7072 ، وكان في المطبوعة والمخطوطة: “أي: إذا قضى أمرًا…” ، وظاهر أن”أي” لا مكان لها هنا ، ونص ابن هشام عن ابن إسحاق دال على صواب ذلك ، فحذفتها. وكان في المخطوطة والمطبوعة أيضًا”فإنما يقول له كن فيكون ، مما يشاء…”. وظاهر أيضًا زيادة”فيكون” هنا ، لأن السياق يقتضي إغفالها هنا ، ولأنها ستأتي بعد ، كما هو في نص رواية ابن هشام عن ابن إسحاق ، فرفعتها من هذا المكان أيضًا. وفي سيرة ابن هشام”فيكون ، كما أراد” ، وكلاهما صواب.

التصنيفات
القرآن الكريم

تفسير الطبري: سورة [آل عمران : 46]

قال الله تعالى: {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران : 46]

تفسير الطبري: القول في تأويل قوله : وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46)

قال أبو جعفر: وأما قوله: ” ويكلمُ الناس في المهد “، فإن معناه: إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم، وجيهًا عند الله، ومُكلِّمًا الناسَ في المهد.

= ف ” يكلم “، وإن كان مرفوعًا، لأنه في صورة ” يفعل ” بالسلامة من العوامل فيه، فإنه في موضع نصب، وهو نظير قول الشاعر: (1)

بِــتُّ أُعَشِّــيهَا بِعَضْــبٍ بَــاتِرِ

يَقْصِــدُ فِــي أَسْــوُقِهَا وَجَــائِرِ (2)


وأما ” المهد “، فإنه يعني به: مضجع الصبيّ في رضاعه، كما:-

7071 – حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: ” ويكلم الناس في المهد “، قال: مضجع الصبي في رَضَاعه.


وأما قوله : ” وكهلا “، فإنه: وُمحتَنِكًا فوق الغُلومة، (3) ودُون الشيخوخة، يقال منه: ” رجل كهل = وامرأة كهلة “، كما قال الراجز: (4)

وَلا أَعُـــودُ بَعْدَهَـــا كَرِيَّـــا

أُمَـــارِسُ الكَهْلَـــةَ وَالصَّبِيَّـــا (5)


وإنما عنى جل ثناؤه بقوله: ” ويكلم الناسَ في المهد وكهلا “، ويكلم الناس طفلا في المهد = دلالةً على براءَة أمه مما قَرَفها به المفترون عليها، (6) وحجة له على نبوّته = وبالغًا كبيرًا بعد احتناكه، (7) بوحي الله الذي يوحيه إليه، وأمره ونهيه، وما ينـزل عليه من كتابه. (8)


وإنما أخبر الله عز وجل عبادَه بذلك من أمر المسيح، وأنه كذلك كان، وإن كان الغالب من أمر الناس أنهم يتكلمون كهولا وشيوخًا = احتجاجًا به على القائلين فيه من أهل الكفر بالله من النصارى الباطلَ، (9) وأنه كان = [منذ أنشأه] مولودًا طفلا ثم كهلا = يتقلب في الأحداث، (10) ويتغير بمرُور الأزمنة عليه والأيام، من صِغر إلى كبر، ومن حال إلى حال = وأنه لو كان، كما قال الملحدون فيه، كان ذلك غيرَ جائز عليه. فكذّب بذلك ما قاله الوفدُ من أهل نجران الذين حاجُّوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، واحتج به عليهم &; 6-419 &; لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وأعلمهم أنه كان كسائر بني آدم، إلا ما خصه الله به من الكرامة التي أبانه بها منهم، كما:-

7072 – حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: ” ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين “: يخبرهم بحالاته التي يتقلب بها في عمره، كتقلب بني آدم في أعمارهم صغارًا وكبارًا، إلا أن الله خَصّه بالكلام في مهده آيةً لنبوته، وتعريفًا للعباد مواقع قدرته. (11)

7073 – حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: ” ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين “، يقول: يكلمهم صغيرًا وكبيرًا.

7074 – حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: ” ويكلم الناس في المهد وكهلا “، قال: يكلمهم صغيرًا وكبيرًا.

7075 – حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ” وكهلا ومن الصالحين “، قال: الكهلُ الحليم.

7076 – حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: كلمهم صغيرًا وكبيرًا وكهلا = وقال ابن جريج، وقال مجاهد: الكهل الحليم.

7077 – حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن في قوله: ” ويكلم الناس في المهد وكهلا “، قال: كلمهم في المهد صبيًّا، وكلمهم كبيرًا.


وقال آخرون: معنى قوله: ” وكهلا “، أنه سيكلمهم إذا ظهر.

ذكر من قال ذلك:

7078 – حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، سمعته – يعني ابن زيد – يقول في قوله: ” ويكلم الناس في المهد وكهلا “، قال: قد كلمهم عيسى في المهد، وسيكلمهم إذا قتل الدجال، وهو يومئذ كهلٌ.


ونصب ” كهلا “، عطفًا على موضع ” ويكلم الناس “.


وأما قوله : ” ومن الصالحين “، فإنه يعني: من عِدَادهم وأوليائهم، لأنّ أهل الصلاح بعضهم من بعض في الدين والفضل.

———————-

الهوامش :

(1) لم أعرف قائله.

(2) معاني القرآن للفراء 1: 213 وأمالي ابن الشجري 2: 167 ، والخزانة 2: 345 ، واللسان (كهل). وقد ذكر البغدادي اختلاف رواية الشعر ، “ويعشيها” من العشاء ، وهو طعامها عند العشاء. يصف كرم الكريم ينحر عند مجيء الأضياف إبله في قراهم ، والعضب: السيف القاطع ، والباتر: الذي يفصم الضريبة. وأسوق جمع ساق. وقصد يقصد: توسط فلم يجاوز الحد. يقول: يضرب سوقها بسيفه لا يبالي أيقصد أم يجور ، من شدة عجلته وحفاوته بضيفه.

هذا ، وانظر تفصيل ما قال أبو جعفر في معاني القرآن للفراء 1: 213 ، 214.

(3) يقال: “غلام بين الغلومة والغلومية والغلامية” ، مثل: “الطفولة والطفولية”.

(4) هو عذافر الفقيمي.

(5) الجمهرة 3: 339 ، المخصص 1: 40 أمالي ، القالي 2: 215 ، والسمط: 836 ، شرح أدب الكاتب لابن السيد: 217 ، 389 ، وللجواليقي: 295 ، واللسان (كهل) (كرا) (شعفر) (أمم) ، وغيرها ، وكان العذافر يكري إبله إلى مكة ، فأكرى معه رجل من بني حنيفة ، من أهل البصرة ، بعيرًا يركبه هو وزوجته ، وكان اسمها”شعفر” ، فقال يرجز بهما:

لَــوْ شَـاءَ رَبِّـي لَـمْ أكُـنْ كَرِيَّـا

وَلَـــمْ أَسُــقْ بَشَــعْفَرَ المطَّيــا

بَصْرِيّـــةٌ تَزَوَّجَـــتْ بَصْرِيَّــا

يُطْعِمُهَـــا المَـــالِحَ والطَّرِيَّـــا

وَجَـــيِّدَ الـــبُرِّ لَهَــا مَقْلِيَّــا

حَـــتَّى نَتَـــتْ سُــرَّتُها نَتِيَّــا

وَفَعَلَــــتْ ثُنَّتُهــــا فَرِيَّـــا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . .

والرجز المروي بعد هذه الأبيات ، فيما يظهر. والكري: المكاري ، الذي يستأجر الركاب دابته. وبعد البيتين اللذين رواهما أبو جعفر:

وَالْعَــــزَبَ المُنَفَّـــهَ الأُمِّيَّـــا

والمنفه: الذي قد أعياه السير ونفهه ، فضعف وتساقط. والأمي: العيي الجلف الجافي القليل الكلام.

(6) في المطبوعة: “قذفها” ، وانظر آنفًا: ص 413 ، تعليق: 3.

(7) قوله: “وبالغًا” معطوف على قوله آنفًا: “طفلا في المهد”. ثم قوله: بعد”بوحي الله” جار ومجرور متعلق بقوله آنفًا: “ويكلم الناس. .”.

(8) في المطبوعة: “وما تقول عليه” ، ومعاذ الله أن يكون ذلك!! والكلمة في المخطوطة سيئة الكتابة ، مستفسدة مستصلحة ، وهي على ذلك بينة لمن يدرك بعض معاني الكلام!!

(9) في المطبوعة: “بالباطل” ، وهو تبديل لعبارة الطبري التي يألفها قارئ كتابه. وقوله: “الباطل” منصوب مفعول به لقوله: “القائلين…”

(10) في المطبوعة: “وأنه كان في معناه أشياء مولودًا…” ، وفي المخطوطة: “وأنه كان في معانيه أشيا مولودًا…” ، ولم أستطع أن أجد لشيء من ذلك معنى أرتضيه ، وقد جهدت في معرفة تصحيفه أو تحريفه زمنًا ، حتى ضفت به ، وحتى ظننت أنه سقط من الناسخ شيء يستقيم به هذا الكلام ، مع ترجيح التصحيف والتحريف فيه. فرأيت أن أضع بين القوسين ما يستقيم به الكلام ، وأن أخلي الأصل من هذه الجملة. هذا مع اعتقادي أن”معه أشيا” هي”منذ أنشأه” كما أثبتها. والسياق: “أنه كان… يتقلب في الأحداث” ، وما بينهما فصل وضعته بين الخطين.

(11) الأثر: 7072- سيرة ابن هشام 2: 230 ، وهو من تمام الآثار التي آخرها رقم: 7067.

التصنيفات
القرآن الكريم

تفسير الطبري: سورة [آل عمران : 45]

قال الله تعالى: {إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [آل عمران : 45]

تفسير الطبري: القول في تأويل قوله : إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: ” إذ قالت الملائكة “، وما كنت لديهم إذ يختصمون، وما كنت لديهم أيضًا إذ قالت الملائكة: يا مريم إنّ الله يبشرك.


&; 6-411 &;

” والتبشير ” إخبار المرء بما يسره من خبر. (104)


وقوله: ” بكلمة منه “، يعني برسالة من الله وخبر من عنده، وهو من قول القائل: ” ألقى فلانٌ إليّ كلمةً سَرّني بها “، بمعنى: أخبرني خبرًا فرحت به، كما قال جل ثناؤه: وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ [سورة النساء: 171]، يعني: بشرى الله مريمَ بعيسى، ألقاها إليها.


فتأويل الكلام: وما كنت، يا محمد، عند القوم إذ قالت الملائكة لمريم: يا مريم إنّ الله يبشرك ببُشرى من عنده، هي ولدٌ لك اسمهُ المسيحُ عيسى ابن مريم.


وقد قال قوم – وهو قول قتادة -: إن ” الكلمة ” التي قال الله عز وجل: ” بكلمة منه “، هو قوله: ” كن “.

7061 – حدثنا بذلك الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قوله: ” بكلمة منه “، قال: قوله: ” كن “.


فسماه الله عز وجل ” كلمته “، لأنه كان عن كلمته، كما يقال لما قدّر الله من شيء: ” هذا قدَرُ الله وقضاؤُه “، يعنى به: هذا عن قدر الله وقضائه حدث، وكما قال جل ثناؤه: وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا [سورة النساء: 47 سورة الأحزاب: 37]، يعني به: ما أمر الله به، وهو المأمور [به] الذي كان عن أمر الله عز وجل. (105)


&; 6-412 &;

وقال آخرون: بل هي اسم لعيسى سماه الله بها، كما سمى سائر خلقه بما شاء من الأسماء.


وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: ” الكلمة ” هي عيسى.

7062 – حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله: ” إذ قالت الملائكة يا مريم إنّ الله يبشرك بكلمة منه “، قال: عيسى هو الكلمة من الله.


قال أبو جعفر: وأقربُ الوُجوه إلى الصواب عندي، القولُ الأول. وهو أنّ الملائكة بشَّرت مريمَ بعيسى عن الله عز وجل برسالته وكلمته التي أمرَها أن تُلقيها إليها: أنّ الله خالقٌ منها ولدًا من غير بَعْل ولا فَحل، ولذلك قال عز وجل: ” اسمه المسيح “، فذكَّر، ولم يقُل: ” اسمُها ” فيؤنث، و ” الكلمة ” مؤنثة، لأن ” الكلمة ” غير مقصود بها قصدُ الاسم الذي هو بمعنى ” فلان “، وإنما هي بمعنى البشارة، فذكِّرت كنايتها كما تذكر كناية ” الذرّية ” و ” الدابّة ” والألقاب، (106) على ما قد بيناه قبل فيما مضى. (107)


فتأويل ذلك كما قلنا آنفًا، من أنّ معنى ذلك: إن الله يبشرك ببشرى = ثم بيَّن عن البشرى أنها ولدٌ اسمه المسيح.


وقد زعم بعض نحويي البصرة أنه إنما ذكر فقال: ” اسمه المسيح “، وقد قال: ” بكلمة منه “، و ” الكلمة “، عنده هي عيسى = لأنه في المعنى كذلك، كما قال جل ثناؤه: أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا ، ثم قال بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا [سورة الزمر: 56 ،59]، وكما يقال: ” ذو الثُّدَيَّة “، لأن يده &; 6-413 &; كانت قصيرة قريبة من ثدييه، (108) فجعلها كأنّ اسمها ” ثَدْيَة “، ولولا ذلك لم تدخل ” الهاء ” في التصغير.


وقال بعض نحويي الكوفة نحو قول من ذكرنا من نحويي البصرة: في أنّ” الهاء ” من ذكر ” الكلمة “، وخالفه في المعنى الذي من أجله ذكر قوله ” اسمه “، و ” الكلمة “، متقدمة قبله. فزعم أنه إنما قيل: ” اسمه “، وقد قدّمت ” الكلمة “، ولم يقل: ” اسمها “، لأن من شأن العرب أن تفعل ذلك فيما كان من النعوت والألقاب والأسماء التي لم توضَع لتعريف المسمى به، كـ” فلان ” و ” فلان “، وذلك، مثل ” الذرّية ” و ” الخليفة ” و ” الدابة “، ولذلك جاز عنده أن يقال: ” ذرية طيبة ” و ” ذرّيةً طيبًا “، ولم يجز أن يقال: ” طلحة أقبلت = ومغيرة قامت “. (109)


وأنكر بعضهم اعتلالَ من اعتلّ في ذلك بـ” ذي الثدية “، وقالوا: إنما أدخلت ” الهاء ” في” ذي الثدية “، لأنه أريد بذلك القطعة منَ الثَّدْي، كما قيل: ” كنا في لحمة ونَبيذة “، يراد به القطعة منه. وهذا القول نحو قولنا الذي قلناه في ذلك.


وأما قوله: ” اسمهُ المسيح عيسى ابن مريم “، فإنه جل ثناؤه أنبأ عباده عن نسبة عيسى، وأنه ابن أمّه مريم، ونفى بذلك عنه ما أضاف إليه الملحدون في الله جل ثناؤه من النصارى، من إضافتهم بنوّته إلى الله عز وجل، وما قَرَفَتْ أمَّه به المفتريةُ عليها من اليهود، (110) كما:-

&; 6-414 &;

7063 – حدثني به ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: ” إذ قالت الملائكة يا مريم إنّ الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيهًا في الدنيا والآخرة ومن المقربين “، أي: هكذا كان أمرُه، لا ما يقولون فيه. (111)


وأما ” المسيح “، فإنه ” فعيل ” صرف من ” مفعول ” إلى ” فعيل “، وإنما هو ” ممسوح “، يعني: مَسحه الله فطهَّره من الذنوب، ولذلك قال إبراهيم: ” المسيح ” الصدّيق… (112)

7064 – حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم مثله.

7065 – حدثنا ابن حميد قال، حدثنا ابن المبارك، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم مثله.


وقال آخرون: مُسح بالبركة.

7066 – حدثنا ابن البرقي قال، حدثنا عمرو بن أبي سلمة قال، قال سعيد: إنما سمي” المسيح “، لأنه مُسِح بالبركة.


&; 6-415 &;

القول في تأويل قوله : وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45)

قال أبو جعفر: يعني بقوله ” وجيهًا “، ذا وَجْهٍ ومنـزلة عالية عند الله، وشرفٍ وكرامة. ومنه يقال للرجل الذي يَشرُف وتعظمه الملوك والناس ” وجيه “، يقال منه: ” ما كان فلان وَجيهًا، ولقد وَجُهَ وَجاهةً” =” وإن له لَوجْهًا عند السلطان وَجاهًا ووَجاهةً”، و ” الجاه ” مقلوب، قلبت، واوه من أوّله إلى موضع العين منه، فقيل: ” جاه “، وإنما هو ” وجه “، و ” فعل ” من الجاه: ” جاهَ يَجوه “. مسموع من العرب: ” أخاف أن يجوهني بأكثر من هذا “، بمعنى: أن يستقبلني في وجهي بأعظم منه.


وأما نصب ” الوجيه “، فعلى القطع من ” عيسى “، (113) لأن ” عيسى ” معرفة، و ” وجيه ” نكرة، وهو من نعته. ولو كان مخفوضًا على الردّ على ” الكلمة ” كانَ جائزًا.


وبما قلنا (114) = من أنّ تأويل ذلك: وجيهًا في الدنيا والآخرة عند الله = قال، فيما بلغنا، محمد بن جعفر.

7067 – حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: ” وجيهًا “، قال: وجيهًا في الدنيا والآخرة عند الله. (115)


وأما قوله: ” ومِنَ المقرّبين “، فإنه يعني أنه ممن يقرِّبه الله يوم القيامة، فيسكنه في جواره ويدنيه منه، كما:-

&; 6-416 &;

7068 – حدثنا بشر بن معاذ قال حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: ” ومن المقربين “، يقول: من المقربين عند الله يوم القيامة.

7069 – حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: ” ومن المقرّبين “، يقول: من المقربين عند الله يوم القيامة.

7070 – حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله.


————————

الهوامش:

(104) انظر معنى”التبشير” فيما سلف في هذا الجزء: 369 ، تعليق: 2 ، والمراجع هناك. وكان في المطبوعة هنا”من خير”. وفي المخطوطة غير منقوطة ، وصوابه ما أثبت.

(105) ما بين القوسين زيادة لا يستقيم الكلام إلا بها.

(106) الكناية: الضمير ، كما سلف مرارًا ، وهو من اصطلاح الكوفيين.

(107) انظر ما سلف 2: 210 / ثم هذا الجزء: 362 ، 363 ، ومواضع أخرى.

(108) خبر ذي الثدية مشهور معروف ، انظر سنن أبي داود”باب قتال الخوارج” 4: 334-338.

(109) انظر ما سلف في هذا الجزء: 362 ، 363.

(110) في المطبوعة: “قذفت به” ، والصواب من المخطوطة. قرف الرجل بسوء: رماه به واتهمه ، فهو مقروف. وقوله: “المفترية” مرفوعة فاعل”قرفت أمه به” ، ويعني الفئة المفترية.

(111) الأثر: 7063- سيرة ابن هشام 2: 229-230 ، وهو من بقية الآثار التي آخرها: 7060 ، ونصه: “لا كما تقولون فيه”.

(112) مكان هذه النقط سقط لا شك فيه عندي ، وأستظهر أنه إسناد واحد إلى”إبراهيم” ثم يليه الأثر رقم: 7064 ، فيه أن المسيح هو الصديق ، كما ذكر . وكان في المخطوطة والمطبوعة موضع هذه النقط: “وقال آخرون: مسح بالبركة” ، وهو كلام لا يستقيم ، كما ترى ، فأخرت هذه الجملة إلى مكانها قبل الأثر رقم: 7066 ، واستجزت أن أصنع ذلك ، لأنه من الوضوح بمكان لا يكون معه شك أو لجلجة.

هذا ، وفي تفسير”المسيح” أقوال أخر كثيرة ، لا أظن الطبري قد غفل عنها ، ولكني أظن أن في النسخة سقطًا قديمًا ، ولذلك اضطرب الناسخ هنا. هذا إذا لم يكن الطبري قد أغفلها اختصارًا.

(113) “القطع” ، كما أسلفنا في مواضع متفرقة ، هو الحال ، انظر ما سلف في هذا الجزء: 371 ، تعليق: 2 ، وانظر معاني القرآن للفراء 1: 213.

(114) في المطبوعة: “كما قلنا” ، والصواب من المخطوطة.

(115) الأثر: 7067- سيرة ابن هشام 2: 230 ، وهو بقية الآثار التي آخرها رقم: 7063.

التصنيفات
القرآن الكريم

تفسير الطبري: سورة [آل عمران : 44]

قال الله تعالى: {ذَٰلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ۚ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [آل عمران : 44]

تفسير الطبري: القول في تأويل قوله : ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله ذلك: الأخبارَ التي أخبرَ بها عبادَه عن امرأة عمران وابنتها مريم، وزكريا وابنه يحيى، وسائر ما قصَّ في الآيات من قوله: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا ، ثم جمعَ جميعَ ذلك تعالى ذكره بقوله: ” ذلك “، فقال: هذه الأنباء من ” أنباء الغيب “، أي: من أخبار الغيب.

ويعني ب ” الغيب “، أنها من خفيّ أخبار القوم التي لم تطَّلع أنت، يا محمد، عليها ولا قومك، ولم يعلمها إلا قليلٌ من أحبار أهل الكتابين ورهبانهم.

ثم أخبر تعالى ذكره نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أنه أوحى ذلك إليه، حجةً على نبوته، وتحقيقًا لصدقه، وقطعًا منه به عذرَ منكري رسالته من كفار أهل الكتابين، الذين يعلمون أنّ محمدًا لم يصل إلى علم هذه الأنباء مع خفائها، ولم يدرك معرفتها مع خُمولها عند أهلها، إلا بإعلام الله ذلك إياه. إذ كان معلومًا عندهم أنّ محمدًا صلى الله عليه وسلم أميٌّ لا يكتب فيقرأ الكتب، فيصل إلى علم ذلك من &; 6-405 &; قِبَل الكتب، ولا صاحبَ أهل الكتُب فيأخذ علمه من قِبَلهم.


وأما ” الغيْب ” فمصدر من قول القائل: ” غاب فلان عن كذا فهو يَغيب عنه غيْبًا وَغيبةً”. (92)


وأما قوله: ” نُوحيه إليك “، فإن تأويله: نُنَـزِّله إليك.


وأصل ” الإيحاء “، إلقاء الموحِي إلى الموحَى إليه.

وذلك قد يكون بكتاب وإشارة وإيماء، وبإلهام، وبرسالة، كما قال جل ثناؤه: وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ [سورة النحل: 68]، بمعنى: ألقى ذلك إليها فألهمها، وكما قال: وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ [سورة المائدة: 111]، بمعنى: ألقيت إليهم علمَ ذلك إلهامًا، وكما قال الراجز: (93)

  • أَوْحَى لَهَا القَرَارَ فاسْتَقَرَّتِ * (94)

بمعنى ألقى إليها ذلك أمرًا، وكما قال جل ثناؤه: فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا [سورة مريم: 11]، بمعنى: فألقى ذلك إليهم إيماء. (95) والأصل &; 6-406 &; فيه ما وصفتُ، من إلقاء ذلك إليهم. وقد يكون إلقاؤه ذلك إليهم إيماءً، ويكون بكتاب. ومن ذلك قوله: (96) وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ [سورة الأنعام: 121]، يلقون إليهم ذلك وسوسةً، وقوله: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [سورة الأنعام: 19]، (97) ألقى إلي بمجيء جبريل عليه السلام به إليّ من عند الله عز وجل.

وأما ” الوحْي”، فهو الواقع من الموحِي إلى الموحَى إليه، ولذلك سمت العرب الخط والكتاب ” وحيًا “، لأنه واقع فيما كُتِب ثابتٌ فيه، كما قال كعب بن زهير:

أَتَـى العُجْـمَ والآفَـاقَ مِنْـهُ قَصَـائِدٌ

بَقِيـنَ بَقَـاءَ الوَحْيِ فِي الحَجَرِ الأصَمّ (98)

يعني به: الكتابَ الثابت في الحجر. وقد يقال في الكتاب خاصةً، إذا كتبه الكاتب: ” وحَى ” بغير ألف، ومنه قول رؤبة:

كَأَنَّـــهُ بَعْــدَ رِيَــاحِ تَدْهَمُــهْ

وَمُرْثَعِنَّـــاتِ الدُّجُـــونِ تَثِمُــهْ

إنْجِيلُ أَحْبَارٍ وَحَى مُنَمْنِمُهْ (99)


&; 6-407 &;

القول في تأويل قوله : وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: ” وما كنت لديهم “، وما كنت، يا محمد، عندهم فتعلم ما نعلِّمكه من أخبارهم التي لم تشهدها، ولكنك إنما تعلم ذلك فتدركُ معرفته، بتعريفناكَهُ.


ومعنى قوله: ” لديهم “، عندهم.


ومعنى قوله: ” إذ يلقون “، حينَ يلقون أقلامهم.


وأما ” أقلامهم “، فسهامهم التي استهم بها المتسهمون من بني إسرائيل على كفالة مريم، على ما قد بينا قبل في قوله: وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا . (100)


وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

7052 – حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا هشام بن عمرو، عن سعيد، عن قتادة في قوله: ” وما كنت لديهم “، يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم.

7053 – حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، &; 6-408 &; عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ” يلقون أقلامهم “، زكريا وأصحابه، استهموا بأقلامهم على مريم حين دخلتْ عليهم.

7054 – حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.

7055 – حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: ” وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون “، كانت مريم ابنة إمامهم وسيّدهم، فتشاحّ عليها بنو إسرائيل، فاقترعوا فيها بسهامهم أيُّهم يكفلها، فقَرَعهم زكريا، وكان زوجَ أختها،” فكفَّلها زكريا “، يقول: ضمها إليه. (101)

7056 – حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: ” يلقون أقلامهم “، قال: تساهموا على مريم أيُّهم يكفلها، فقرَعهم زكريا.

7057 – حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: ” وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم “، وإنّ مريم لما وضعت في المسجد، اقترع عليها أهلُ المصلَّى وهم يكتبون الوَحْى، فاقترعوا بأقلامهم أيُّهم يكفُلها، فقال الله عز وجل لمحمد صلى الله عليه وسلم: ” وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لدَيهم إذْ يختصمون “.

7058 – حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ، قال، أخبرنا عبيد &; 6-409 &; قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: ” إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم “، اقترعوا بأقلامهم أيُّهم يكفل مريم، فقرَعهم زكريا.

7059 – حدثنا محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن في قوله: ” وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم “، قال: حيث اقترعوا على مريم، وكان غَيبًا عن محمد صلى الله عليه وسلم حين أخبرَه الله.


وإنما قيل: ” أيهم يكفل مريم “، لأن إلقاء المستهمين أقلامَهم على مريم، إنما كان لينظروا أيهم أولى بكفالتها وأحقّ. ففي قوله عز وجل: ” إذ يلقون أقلامهم “، دلالة على محذوف من الكلام، وهو: ” لينظروا أيهم يكفل، وليتبيَّنوا ذلك ويعلموه “.


فإن ظن ظانّ أنّ الواجب في” أيهم ” النصبُ، إذ كان ذلك معناه، فقد ظن خطأ. وذلك أن ” النظر ” و ” التبين ” و ” العلم ” مع ” أيّ” يقتضي استفهامًا واستخبارًا، وحظ ” أىّ” في الاستخبار، الابتداءُ وبطولُ عمل المسألة والاستخبار عنه. وذلك أن معنى قول القائل: ” لأنظُرَنّ أيهم قام “، لأستخبرنَ الناس: أيهم قام، وكذلك قولهم: ” لأعلمن “.


وقد دللنا فيما مضى قبل أن معنى ” يكفل “، يضمُّ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (102)


&; 6-410 &;

القول في تأويل قوله : وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وما كنتَ، يا محمد، عند قوم مريم، إذ يختصمون فيها أيُّهم أحقّ بها وأولى.

وذلك من الله عز وجل، وإن كان خطابًا لنبيه صلى الله عليه وسلم، فتوبيخٌ منه عز وجل للمكذبين به من أهل الكتابين. يقول: كيف يشكّ أهل الكفر بك منهم وأنت تنبئهم هذه الأنباءَ ولم تشهدْها، ولم تكن معهم يوم فعلوا هذه الأمورَ، ولست ممن قرأ الكتب فعَلِم نبأهم، ولا جالَس أهلها فسمع خبَرَهم؟

كما:-

7060 – حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: ” وما كنت لديهم إذ يختصمون “، أي ما كنت معهم إذ يختصمون فيها. يخبره بخفيّ ما كتموا منه من العلم عندهم، لتحقيق نبوته والحجة عليهم لما يأتيهم به مما أخفوا منه. (103)

———————–

الهوامش :

(92) انظر تفسير”الغيب” فيما سلف 1: 236 ، 237.

(93) هو العجاج.

(94) ديوانه 5 ، واللسان”وَحَى” ، وسيأتي في التفسير 4: 142 (بولاق) ، وغيرها. ورواية ديوانه ، وإحدى روايتي اللسان”وحى” ثلاثيًا ، وقال: “أراد أوحى” ، إلا أن من لغة هذا الراجز إسقاط الهمزة مع الحرف” ، وانظر ما سيأتي في تفسير سورة مريم (16: 41 بولاق). والبيت من رجز للعجاج يذكر فيه ربه ويثني عليه بآلائه ، أوله:

الحَـــمْدُ لِلِــه الَّــذِي اسْــتَقَّلتِ

بِإِذْنِـــه السَّـــماءُ, وَاطْمــأَنَّتِ

بِإذْنِـــهِ الأَرْضُ ومــــا تَعَتَّــتِ

وَحَــى لَهَــا القــرارَ فَاسْـتَقَرَّتِ

وَشـــدَّهَا بِالرَّاسِـــيَاتِ الثَّبــتِ

رَبُّ البِـــلادِ والعِبَـــادِ القُنَّــتِ

(95) في المخطوطة والمطبوعة: “فألقى ذلك إليهم أيضًا” ، وهو خطأ بين ، والصواب ما أثبته ، وانظر ما سلف قريبًا في بيان قوله تعالى: “رمزًا” ، ص: 388 ، وما بعدها.

(96) في المخطوطة: “وذلك قوله” ، والصواب ما في المطبوعة.

(97) قوله: “لأنذركم به ومن بلغ” ، ليس في المخطوطة.

(98) ديوانه: 64 ، من قصيدة مضى منها بيت فيما سلف 1: 106 ، وهي قصيدة جيدة ، يرد فيها ما قاله فيه مزرد ، أخو الشماخ ، حين ذكر كعب الحطيئة في شعره وقدمه وقدم نفسه ، فغضب مزرد وهجاه ، فقال يفخر بأبيه ثم بنفسه ، بعد البيت السالف في الجزء الأول في التفسير:

فَـإِنْ تَسْـأَلِ الأَقْـوَامَ عَنِّـي, فَــإِنَّنِي

أَنَـا ابْنُ أبِي سُلْمَى عَلَى رَغْمِ مَنْ رَغِمْ

أنَـا ابـنُ الَّـذِي قَدْ عَاشَ تِسْعِينَ حِجَّةً

فَلَـمْ يَخْـزَ يَوْمًـا فـي مَعَـدٍّ وَلَمْ يُلَمْ

وَأَكْرَمَـهُ الأكْفَـاءُ فِــي كُـلِّ مَعْشَـرٍ

كِـرَامٍ, فَـإِنْ كَـذَّبْتَني, فَاسْـأَلِ الأُمَمْ

أَتَـــى العُجْــمَ. . . . . . . . . .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(99) ديوانه: 149 ، من رجز طويل بارع غريب المعاني والوجوه ، يذكر فيه مآثر أبي العباس السفاح ، وهو غريب الكلام ، ولكنه حسن المعاني إذا فتشته ، فأقرأه وتأمله. وهذه الأبيات في مطلع الرجز ، والضمير عائد فيها على ربع دارس طال قدمه ، وعفته الرياح. وقوله: “تدهمه” تغشاه كما يغشى المغير جيشًا فيبيده. وارثعن المطر (بتشديد النون): كثر وثبت ودام. فهو مرثعن. ووثم المطر الأرض يثمها وثمًا: ضربها فأثر فيها ، كما يثم الفرس الأرض بحوافره: أي يدقها ، إلا أن هذا أخفى وأكثر إلحاحًا. ونمنم الكتاب: رقشه وزخرفه وأدق حظه: وقارب بين حروفه الدقاق ، وتلك هي النمنمة.

(100) انظر ما سلف ص: 345-352.

(101) قوله: “وكان زوج أختها” ، يعني زوج أخت أم مريم ، لا زوج أخت مريم ، وكأن الخبر لما اختصر ، سقط منه ذكر أم مريم ، وبقي باقي الخبر على حاله ، وقد بينت ذلك فيما سلف ص: 349 ، تعليق: 4.

(102) انظر ما سلف في هذا الجزء: 348.

(103) الأثر: 7060- سيرة ابن هشام 2: 229 ، وهو من بقية الآثار التي كان آخرها رقم: 6911.